محمد بلمجدوب.. آخر نحاتي الخشب في فاس العتيقة

صانع ماهر لا يرغب أن يفارق مهنته أو تفارقه

«الحاج» محمد بلمجدوب يعمل على آلته الخشبية القديمة (تصوير: أحمد العلوي المراني)
TT

لا يمكن الحديث عن مدينة فاس المغربية دون استحضار «عراقتها».

ففاس منذ الوهلة الأولى تثبت لزائرها أنها مدينة تاريخ. وهو تاريخ لا يتمثل في عمرانها العريق فحسب، بل يسكن في الأسوار كما يسكن أهلها، الذين يحافظون على تراثها عبر الحفاظ على مهن لا يمكن أن نجدها إلا في فاس، وفي معاملتهم وحديثهم الذي يميز أهلها عن جميع المدن المغربية. فهو حديث معروف بحلاوته وأناقته البالغة.. ويسمى عند المغاربة «الصواب»، بمعنى حسن المعاملة والحديث والتقدير للشخص الذي تحدثه.

يدخل زائر فاس بمجرد عبور أسوار «المدينة القديمة» عالما آخر. في هذا العالم يوجد كل ما هو قديم حتى ليخيل للزائر أنه يعيش في عصور من الماضي البعيد. وخلف الأسوار تقدم حوانيت صغيرة منتجات يدوية غاية في الإتقان، ما زال حرفيون يستعملون الطرق التقليدية في صنعها على الرغم من توافر أدوات حديثة لذلك، لكنها حسب الصانع - أو الحرفي - المغربي لا تصل إلى مستوى الجودة نفسه التي يتميز بها إنتاجه، الذي يقبل عليه الزبائن، وخاصة، ممّن يقدّرون قيمة العمل اليدوي، مهما ارتفع سعره.

ثمة حانوت يلفت النظر وسط المحلات الصغيرة، التي يعمل فيها صناع تقليديون. إنه محل «الحاج» محمد بلمجدوب، أي زائر لمدينة فاس العريقة لا بد له من التوقف أمام هذا الصانع الاستثنائي. الحاج محمد، الذي هو الآن في عقده الثامن، يمسك برجليه آلة خشبية قديمة وبإحدى يديه قطعة خشبية صغيرة وباليد الأخرى خيطا طويلا ويحركهما برشاقة وبراعة وخفة تؤدي إلى أن تتحوّل القطعة الخشبية إلى تحفة في غضون دقائق معدودة.

كثيرون يلقون أسئلتهم على بلمجدوب حول هذه الحرفة والطريقة الاستثنائية التي يستعملها، ويرد الرجل في كل مرة شارحا من دون كلل أو ملل. وفي كل مرة يسرد حكايته مع مهنة نحت الخشب، والطريقة التي يستعملها في النحت، سواء على من كان مهتما بشراء مصنوعاته، أو من يكتفي بالاستفسار. والواقع أن بلمجدوب يعرض في محله الصغير ما يصنعه بنفسه، وكلها مصنوعات تدل على براعة تستحق الإعجاب، وغالبا عبارة ما تكون عبارة عن قطع صغيرة للديكور أو طاولات شطرنج بمختلف الأحجام والأشكال.

هذه المصنوعات تلفت نظر المارة، لا سيما أن «الحاج» محمد بلمجدوب ينجزها مباشرة أمام الزبائن الذين يجدون صعوبة في تصديق أن هذه المنتجات يصنعها رجل في الثمانينات وبآلة بدائية. غير أن الحيرة سرعان ما تتحول إلى إعجاب، عندما يبدأ بلمجدوب نحت الخشب أمامهم بسرعة خاطفة وببراعة كبيرة.. بحيث تتطابق قطع الشطرنج الصغيرة في الشكل والحجم بدقة مدهشة.

الآلة التي يستعملها بلمجدوب تدعى «المخطة»، وهي تتكون من قوس مصنوع من الخشب وخيط يربطه من «العتلة»، وهي ميزان للعمل، بالإضافة إلى «المربوع» و«المسنّ» و«المطرقة».

الحديث إلى «الحاج» محمد تطلب وقتا طويلا، إذ كان لا بد من الانتظار من أجل الاستفسار، ولأن هدفنا الاستفسار كان علينا منح الأولويّة للمهتمين باقتناء منتجات المحل والتفرّج عليها والتقاط صور له. ذلك أن «الحاج» لا يكتفي بالسرد فقط، بل تراه يروّج لبضاعته سواء تلك المعروضة في واجهة المحل أو التي يفردها أمام بعض الزبائن ممن يرغبون باقتناء الأفضل والأندر.. ويحكي خلال ذلك طرق صناعتها وميزتها وأنواع الخشب المستعمل في كل قطعة، وهو - بالمناسبة - لا يجد أي صعوبة في التواصل مع السياح إذ إنه يتكلّم بجانب العربية اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

يقول «الحاج» محمد بلمجدوب لـ«الشرق الأوسط» إنه «آخر نحات» في فاس ما يزال يعمل بهذه الطريقة التقليدية، التي عمل فيها منذ كان في العاشرة من عمره، حين عمل رفقة والده في المحل نفسه حيث يعمل اليوم.

ويعتقد بلمجدوب أن «التجارة في ذلك الوقت كانت مزدهرة، ولم يكن يقتصر العمل على صنع قطع الديكور، بل كان الحرفيون يصنعون (القادوم) - وهو المحراث اليدوي - وأدوات غزل الصوف ليصبح خيوطا صالحة لصنع البطانيات والجلاليب، كما كانت الصناعات تشمل أرجل الموائد وقطع (المشارابي) وهي قطع خشبية صغيرة الحجم ومنحوتة تصنّع بإتقان وتركّب لتصنع منها النوافذ والموائد وقطع الأثاث المغربي، وهي كلها منتجات لم رائجة أو اندثرت، وبعضها لم يعد يُستعمل».

وأضاف «ثم أصبح العمل يقتصر على صنع قطع الديكور التقليدية وإصلاح ناعورات الصوف التي تحضرها نساء يعملن في صنع الألبسة المغربية التقليدية الأصلية، ويحرص زبائنهن على اعتماد الطرق التقليدية اليدوية في صنعها، وعادة ما تستعمل في صناعة (السفيفة) وهي عبارة عن شريط مذهب أو فضي يلف أطراف القفطان أو الجلابة وأحيانا يكون ملونا حسب لون الثوب، لكن (السفيفة الأصلية) - التي تسمى (الصم) - تصنع غالبا في مدينة فاس، وفقط بالطريقة اليدوية.. وسعرها مرتفع».

ويستعمل بلمجدوب في مهنته خشب شجر الدفلى والأرز وجذر شجر العرعار والليمون والزيتون. وهو يقرّ بأن صحته لم تعد تحتمل العمل، كما كانت من قبل، لكنه مع ذلك يرفض تماما الاستغناء عن مهنة رافقها ورافقته طيلة حياته، خاصة أنه يشارك في معارض دولية خارجية بتقديم منتجاته الخشبية، ولديه زبائن أوفياء، وهذا بالإضافة إلى أنه يرمز لعراقة مدينة فاس ويشكّل جزءا من بقايا تاريخها.