سوق المناخلية الدمشقية.. من صناعة المناخل إلى بيع مستلزمات البناء

كل شيء تغير فيها إلا اسمها

جانب من سوق المناخلية ومنشآتها التاريخية
TT

لعلها السوق الوحيدة في دمشق القديمة التي، على الرغم من تخصصها ببيع بضائع تهم البنّائين والمعماريين والنجارين والحدادين، وبالتالي اقتصار زبائنها على هذه الفئات من المجتمع الدمشقي، فإن الواقع يقول غير ذلك، حيث تستقطب السوق يوميا آلاف الزائرين، وهم ليسوا بالضرورة زبائن وإنما أناس محليون أدهشهم بناء السوق وطرازها الجميل وسقفها المعدني المتميز بثرياته الجميلة وتقاطعاته الهندسية، فقرروا زيارتها بين الفترة والأخرى.

كما أن هناك أناسا آخرين يفضلون عبوره بشكل يومي في تجوالهم بأسواق ومناطق دمشق القديمة، حيث تربط السوق، ومن خلال مداخلها المتعددة، شارع الملك فيصل الفاصل ما بين حارات المدينة القديمة وتلك الأحدث ومنطقة القلعة والكلاسة.

جميع أصحاب محلاتها يعملون بصناعة وبيع المناخل والغرابيل، كما كانت عليه السوق قبل عشرات السنين، وحين تأسيسها كسوق متخصصة في هذه الصناعة ومنتجاتها اللازمة لمن يعمل في دقيق القمح ونخله وغربلته.

الزائر سيشاهد حاليا تحول معظم محلاتها لبيع أدوات بناء المنازل وخراطيم المياه ومستلزمات النجارين والحدادين؛ من البراغي والكماشات والأزاميل وغيرها.

وسوق المناخلية التي تغير فيها كل شيء وخضع للتطوير والتجديد قبل سنوات قليلة، من خلال تجربة ناجحة قام بها أصحاب دكاكينها، حيث تبرعوا، وبشكل شخصي، لترميم السوق بإشراف الجهات الرسمية المعنية في لجنة حماية مدينة دمشق القديمة، فقدموا نموذجا جميلا للحافظ على مكان تاريخي بمبادرة ذاتية محلية وبتمويل جماعي.

المهندس الكهربائي، عرفان طباع، الذي ورث محله في سوق المناخلية عن والده وأجداده، كما كان له دور مهم في ترميم السوق من خلال ترؤسه لجمعية المناخ الأهلية الخاصة بشارع الملك فيصل والسوق، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «سوق المناخلية قديمة جدا، وهي الامتداد الطبيعي للمدينة القديمة، وقد قامت محافظة دمشق في عام 1990 بتوجيه كتاب إلى أصحاب المحلات في السوق بأن منطقة السوق تاريخية وأثرية ويجب المحافظة عليها، وطلبت منهم أن يتعاونوا على إعادة ترميم هذه السوق لإظهار جمالياتها وقيمتها التاريخية. وبالفعل تم العمل على تأليف لجنة قامت بالترميم وعملت على تغطيتها بغطاء معدني جميل».

والسوق تأسست متخصصة في صناعة المناخل على الرغم من أن البعض يعتقد أنها انتهت وانقرضت كصناعة يدوية في السوق، حيث هناك ثلاثة محلات يحافظ أصحابها على استمرار هذه الصناعة اليدوية على الرغم من انخفاض عدد زبائنها كثيرا، والطريف هنا، يضحك عرفان، أن هؤلاء طوروا صناعة المناخل من شكلها الخاص بنخل دقيق القمح إلى أشكال أخرى وبثقوب مختلفة يستخدمها البناءون في غربلة الرمل والإسمنت وبشكل يدوي.

تضم سوق المناخلية أكثر من 200 دكان، وبطول يصل لنحو 500 متر، وهي بعكس الأسواق القديمة المعروفة كالحميدية ومدحت باشا والبزورية، تتوضع باتجاه واحد فقط، وتتقابل الدكاكين على الطرفين. وتتميز المناخلية بأنها سوق متعرجة وفي عدة اتجاهات، وهذا ما جعل سقفها المعدني الذي جدد مع السوق يتعرج هو الآخر ليشكل منظرا جميلا تتقابل وتتلاقى فيه الزوايا، لتشكل قببا ودوائر وشبه منحرفات، حيث تجذب انتباه الزائر والمتجول في السوق، الذي يشاهد دائما وهو يرفع نظره للأعلى مستمتعا بهذا المنظر الجميل.

ولكن كيف تطورت السوق وحافظ أصحابها عليها، وهي التي تأسست قبل 200 عام. يجيب المهندس عرفان، 63 عاما، الذي عرفنا على لقبه (أبو كريم): «منذ تأسيس السوق عمل كثير من الأسر الدمشقية على استثمار دكاكينه، واستمر الأبناء بوراثة مهنة الآباء، فحافظوا على السوق وعلى بنائها وتجارتها, وأتذكر وأنا في المرحلة الابتدائية كنت أجيء إلى والدي مباشرة بعد انصرافي من المدرسة القريبة من السوق، حيث يأخذني والدي معه على المنزل، وكنت وبحس طفولي ألاحظ كيف كان جميع أصحاب المحلات من زملاء والدي يعيشون في السوق كأسرة واحدة، حتى إن هناك تقليدا شائعا بين جميع أصحاب المحلات، وهو عندما يفتح الجميع دكاكينه ويأتي لأحدهم زبون في الصباح، فيشتري ما يريد، فإن صاحب الدكان الذي باع الزبون لا يقبل أن يبيع لزبون آخر حتى يستفتح جاره، ويبيع، وبالتالي يرسل الزبون الآخر لجاره قائلا له: «أنا استفتحت ببيعة، اذهب إلى جاري واشتر من عنده حتى يستفتح». ويتنهد أبو كريم معلقا: «لقد خف بريق هذا التقليد، والظاهرة، على الرغم من وجودها حاليا، فإنها بشكل قليل، مع استمرار المحبة والألفة بين معظم أصحاب الدكاكين في السوق حاليا، خاصة أن جميع هؤلاء ورثوا الدكاكين عن آبائهم وأجدادهم، وما زالوا محافظين أيضا على أعراف وأخلاقيات الأهل بحب الآخرين والتعاون الجماعي واحترام الآخر.

وهل سوق المناخلية عبارة عن دكاكين فقط؟ لا طبعا، يؤكد المهندس عرفان. فالسوق تضم مباني تاريخية جميلة ومهمة، ومنها: جامع سنان باشا، الذي يضم قبر الوالي العثماني سنان، الذي أمر ببناء هذا الجامع والمتميز بعمارته الجميلة وبظاهرة قديمة ما زالت تحير الزائرين والباحثين، وهي وجود حجرين في محراب الجامع يعالجان مرض اليرقان من خلال قيام المريض بمد لسانه ولحس واحدة من الحجرين، ولذلك كان الكثير من الزائرين، خاصة من الهند وباكستان وبلدان أخرى، يأتون خصوصا للجامع، ليمدوا ألسنتهم ويلحسوا الحجر، ليشفوا من مرض الريقان (اليرقان). هذه معلومة شعبية قديمة ومنقولة بالتواتر الشفهي (يبتسم أبو كريم)، ولا أعرف مدى دقتها وصحتها وتفسيرها العلمي، ولكن ما يدل على وجود هذه الظاهرة القديمة هو وجود علامات ألسن الزائرين على الحجرين ظاهرة للعيان حتى الآن.

كذلك في محراب الجامع هناك أحجار أخرى تتميز برائحة خاصة (لا يستطيع الداخل للجامع شمها) ولكنها تطرد البراغيث والناموس والبق ولو فتحت النوافذ فلا تدخل هذه الحشرات المزعجة على الرغم من وجود أحد أفرع نهر بردى بجوار نوافذ الجامع، ووجود البراغيث والبق بكثرة في النهر الملاصق للنوافذ ظاهرة غريبة لم يجد لها المهتمون أي تفسير.

ومن معالم السوق التاريخية أيضا هناك باب الفرج، إحدى بوابات دمشق السبع، وسمي كذلك لأنه كان الفرج للمدينة، وما زال الباب موجودا وبجانبه مسجد مكتمل مع مئذنته لهما نفس الاسم, وهناك الأقواس الحجرية التي تزين واجهات دكاكين السوق.