بائع الليمونادة «أبو عابد»: لوحة سريالية تنعش الحنين إلى زمن ولى

في ساحة التل الطرابلسية العريقة قلب عاصمة شمال لبنان

أبو عابد.. في عرينه بساحة التل («الشرق الأوسط»)
TT

في شهر رمضان يبدو عمل أبو عابد أكثر نشاطا ويصبح وكأنه صورة يومية من ذاكرة طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني. تراه يقف في ساحة التل الشهيرة حاملا على كتفه إبريقا لامعا من النحاس والنيكل، مزينا بقماشات ملونة مصنوعة يدويا. ويجول في الساحة والأحياء القريبة منها مرتديا سروالا تقليديا فضفاضا، واضعا على رأسه طربوشا أحمر، بينما تبقى الزهور الاصطناعية «من تشكيلة المشهد» على ما يقول. فهي تزين «وزرة النحاس» التي يستخدمها في وضع الأكواب والكاسات النحاسية، فهو ليس مجرد بائع عصير جوال عادي، بل صار جزءا من مشهد مألوف يوميا. مشهد يتآلف مع بقايا قديمة من ساحة التل، أعرق ساحات طرابلس، مع مقهى «فهيم الشعبي» و«منشية التل» وساعتها المميزة الضخمة، وهكذا صار أبو عابد مَعْلما من معالم التل، بل يأتي اليوم بعض اللبنانيين من مناطق مختلفة فقط ليشاهدوا هذا «الرجل البسيط بزيه» كما يقول، مستمتعين برؤيته وهو يقدم لهم أكواب العصير بلهفة وبسمة هادئة تعلو وجهه المليء بالملامح والحكايات.

اسمه حاتم البعريني، من أبناء بلدة فنيدق الجردية في منطقة عكار بأقصى شمال لبنان. وهو ينطلق كل يوم من منطقة سكنه في قرية وادي الريحان، قرب حلبا، العاصمة الإدارية لعكار، متجها إلى طرابلس بسيارته الصغيرة. وفي وسط المدينة يتجول في ساحتها الواسعة يبيع للمارة عصير الليمونادة وعصير عرق السوس (العرقسوس)، بعد أن يجهز عدته كلها من الإبريق، إلى كاسات النحاس التي يسكب فيها العصير للزبائن، تلك الكاسات التي تشعرهم بالانتعاش وتخفف عنهم حر الصيف ولهيبه، وتحاول أن تعيد زمنا انقطع «وصاله» اليوم مع «جيل هذه الأيام».

ويبتسم أبو عابد فيقول: «فرحتي عارمة حين ألتقي بالناس هنا. أشعر أنني أُسعدهم بمنظري ولباسي التقليدي. وأثير في نفوسهم حنينا إلى زمن ولى»، ثم يضيف: «كنت طوال عمري أفتخر بانتمائي إلى الأصالة، وما عملي في هذا المجال إلا تحقيق لذلك الطموح الدفين. فلقد تربيت في عائلة محافظة وتهتم بالتقاليد والعادات، والأصالة طقس يومي من حياتنا».

قصة حاتم - أو أبو عابد - مع بيع العصير بدأت منذ عام 1987 في الملعب البلدي في محلة المئتين بطرابلس، حيث كانت تجري معظم الاحتفالات والمباريات الرياضية والأنشطة الأهلية والبيئية وغيرها، بالإضافة إلى اعتبار الملعب مساحة للأعياد والملاهي وألعابها ومساحة «السيرك» في تسعينات القرن الماضي. ويروي الحكاية قائلا: «كنت أبيع الليمونادة وألبس هذه الثياب في ساحة الملعب. واشتُهرت بالزي منذ ذاك الوقت. حينها لم يكن هناك إقبال على المرطبات الغازية، بل كانت الليمونادة والسوس والجلاب الأكثر استهلاكا في أجواء الفرح واللهو وأجواء الاحتفال».

من هناك صار أبو عابد على كل شفة ولسان، وبدأت عروض العمل تفتح أمامه الأبواب الواسعة حتى صار ذائع الصيت في كل لبنان.

ويتابع: «بدأتُ أُطلب للعمل في الحفلات الخاصة في مصايف بيت الدين وعالية وبحمدون.. وفي الفلل وعند العائلات الميسورة. وزاد الطلب علي حتى عملت في شركة خاصة في الحفلات والأعراس». ومن بعدها تعرف أبو عابد إلى ساحة التل حيث «صارت هناك علاقة خاصة بيني وبينه» كما يقول. أمسى أبو عابد مفتونا بـ«عجقة» الساحة التي لا تهدأ، ومبهورا بمشاهدها الآسرة، حيث يعيش معها «حالة عشق خاصة». هنا تعرف إلى الناس عن قرب واكتشفهم.

نسأله: ماذا اكتشفت؟، فيجيب: «اكتشفت أن الناس ألوان وأشكال وأمزجة، وأن لكل واحد منهم منطقا وتفكيرا واسلوب حياة يختلف عن الآخر. لقد صار لدي خبرة بطبيعتهم».

أبو علي أحد بائعي القهوة الثابتين في الساحة يشهد بأن أبو عابد صاحب «ليمونادة لذيذة، وكل الناس تشتري منه، ليس فقط لزيه الغريب، بل أيضا لنوعية العصير الذي يبيعه». ويؤكد أبو علي أن أبو عابد بالفعل «أثر على حركة بيعنا في الساحة بعدما شكّل حالة مميزة. مشهد وقوفه في الساحة يزيد شعبيته يوما بعد يوم».

لكن أبو عابد يختتم كلامه بالقول إن «طرابلس تخفي في مشاهدها اليومية أجمل القصص والمشاهد، لكن للأسف لا يجري الإضاءة عليها، وتبقى مهمَلة منسية مثل كل أحلامنا ومثل كل مهننا البسيطة التي توصف بالوضيعة».

ومع ختام القصة يودعنا ببسمة مشفوعة بكوب عصير منعش يروي الظمأ والفضول.