التين الشوكي سلطان المائدة التونسية في رمضان

العم سعد لـ«الشرق الأوسط»: كنا نقضي الأسابيع في الخيام لا نأكل سوى السويق وشربة الشعير والهندي

قروية تجني التين الشوكي (البربري) الذي يطلق عليه التونسيون الهندي
TT

تزامن موسم التين البربري، أو التين الشوكي، هذا العام مع شهر رمضان المبارك، حيث لا تخلو منه مائدة الإفطار، بل السحور، لكونه يختزن كميات كبيرة من الماء، إضافة لقيمته الغذائية، فضلا عن اعتقاد التونسيين بأنه «سلطان الغلال»، فأصبح بذلك سلطان المائدة الرمضانية هذا الموسم.

ويحصل التونسيون على التين الشوكي، الذي يسمونه «الهندي» بطرق مختلفة، حيث يتمتع القرويون بميزة الحصول على «الهندي» مجانا، حيث تحيط بمزارعهم ومنازلهم صفوف التين البربري التي يحد بها الناس أراضيهم ويفصلون بها قطع الأرض بعضها عن بعض، بينما يشتريه سكان المدن من باعة الخضار والغلال. ويقوم القرويون بجني التين بكماشات حديدية موصولة إلى يد خشبية طويلة، ثم يضعونه على أرض معشبة ثم يكنسون شوكه بالأعشاب، ويضعونه في أواني من سعف النخيل تسمى في تونس «شارية» و«زنبيل»، وينقل على الحمير أو في صناديق، سواء من الخشب أو البلاستيك، وتنقل على العربات التي تجرها الخيول أو البغال، أو سيارات الشحن. وفي المناطق التي يتكاثر فيها «الهندي» يضع بعض القرويين سلالا من الهندي على قارعة الطريق منذ الصباح الباكر وحتى وقت الإفطار، وتتوقف السيارات للشراء والتبضع من «الهندي»؛ نظرا لأسعاره الزهيدة مقارنة بثمنه الباهظ في المدن.

وقال عماد (16 سنة) لـ«الشرق الأوسط»: «تقوم أمي بجني الهندي وتنظيفه، وأقوم أنا ببيعه على قارعة الطريق». وعن أسعار السطل أفاد بأن الأسعار تختلف من سطل لآخر، فهناك سطل بـ« 3 دنانير» (الدينار نصف يورو تقريبا) وآخر بـ«دينارين» وثالث بـ«دينار واحد»، وذلك حسب النوعية والكمية. ولا ينسى عماد أن يطلب ثمنا للحديث معه، ومبلغا مرتفعا نسبيا لتصويره فـ«كل شيء بثمنه في هذا الزمان».

لم يكن عماد وحده، فقد كان هناك أقرباء له وأصدقاء وجيران يمارسون تجارة بيع الهندي على قارعة الطريق، وما يجمع بينهم جميعا هو الفقر والحاجة، فهناك تجار يساومونهم على بيع بضاعتهم بأسعار زهيدة ثم ينقلونها إلى المدن، ولا سيما العاصمة تونس، لبيعها بأضعاف أضعاف سعرها، بل هناك من يصدر الهندي إلى فرنسا وغيرها، حيث تقبل الجاليات العربية، ولا سيما المغاربية، على الهندي بشغف شديد، على الرغم من ارتفاع أسعاره هناك، ولا سيما في رمضان المعظم.

ومن بين من وجدناهم يبيعون الهندي على قارعة الطريق، شباب ويافعون، قالوا لـ«الشرق الأوسط» إنهم يبيعون الهندي للحصول على أموال يشترون بها ملابس في العيد، ومنهم من ذكر أنهم يجمعون المال لشراء المواد الدراسية في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، موعد العودة للدراسة، سواء الابتدائية أو الثانوية وحتى الجامعية. ولا يقل دخل الواحد منهم يوميا، كما قال بعضهم لـ«الشرق الأوسط»، عن 5 دنانير، وقد يصل إلى 15 دينارا إذا ابتسم لبعضهم الحظ وعثروا على زبون يراعي ظروفهم ولا يساومهم في الأسعار، كما يقولون.

العم محمود في السبعينات من عمره، أصر على أن نشتري منه آخر سطل هندي كان معه، ليعود إلى بيته ويستريح من شدة الحرارة وحالة القيظ التي تجتاح تونس هذه الأيام: «لي أطفال صغار، أعولهم من بيع الهندي، وكما ترون الحرارة لا تطاق، فهل تساعدونني على إنهاء مهمتي هذا اليوم؟». وأكد العم محمود أنه لا يتمتع براتب تقاعدي ولا أي مساعدات أخرى، ويعول أبناءه بعرق جبينه كلما سمح له بأن يعمل، سواء في الزراعة لدى الفلاحين، أو في أعمال البناء، على الرغم من تقدمه في السن.

ويشتكي باعة الهندي على الطرقات من أوضاع مزرية على المستوى الأسري، فهناك الأرملة التي تعول أبناءها، وهناك المنقطع عن الدراسة بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة فضلا عن تكاليف الدراسة، وهناك الأصناف التي تحدثنا عنها في السطور السابقة.

وقال صاحب سيارة توقف بدوره لشراء كمية من الهندي، يدعى رضا، يعمل موظفا بأحد البنوك «آتي كل مساء إلى هذا المكان لشراء الهندي، فهو لا يغيب أبدا عن المائدة الرمضانية»، وأكد أن الأسعار في المدن مرتفعة مقارنة بمثيلاتها خارج العمران: «ما يحصل عليه هؤلاء أقل بكثير مما يحصل عليه التجار، ولكن ما يجمعونه يوميا يعد شيئا ثمينا بالنسبة لهم».

قصة التونسيين مع التين الشوكي قديمة قدم وجود الإنسان والهندي في هذه الديار، حيث يروي العم سعد بالطيب (73 سنة) أن الناس كانوا يهاجرون إلى مضارب الهندي: «كنا نهاجر حيث يوجد الهندي قبل أن تنتشر صفوفه بين المزارع وعلى طول المسارب الفلاحية، وكنا نقضي الأسابيع في الخيام لا نأكل سوى السويق وشربة الشعير والهندي». وتابع: «أحيانا ننتقل مسافة طويلة تتراوح بين 20 و50 كيلومترا نؤجر مزارع الهندي لنا ولإبلنا، ثم نعود إلى مناطقنا»، وأكد أن «استهلاك التونسيين من الهندي، قل مقارنة بالأيام الخوالي، فقد كانت الأسرة المتوسطة تستهلك ما لا يقل عن 10 كيلوجرامات من الهندي يوميا، وبعض الأسر تستهلك ضعف ذلك».

وكان الشتاء مشهورا بمأكولاته من العجين، والصيف بالحبحب، أو البطيخ كما يطلق عليه في دول عربية أخرى، ويطلق عليه اسم «الدلاع» في تونس، إلى جانب الفواكه والغلال الأخرى، أما الخريف فلا غلة تعلو فوق قيمة التين الشوكي.