«مقهى موسى» الشعبي: جلسات رقيقة.. والسحور «كعك طرابلسي»

سهرات رمضانية حتى الفجر في عاصمة شمال لبنان

أضواء وزحام أمام «مقهى موسى» في طرابلس (تصوير: عبد الرحمن مصطفى)
TT

ليل رمضان في طرابلس، عاصمة شمال لبنان، مختلف عنه في أي مكان آخر، وله طعمه الخاص. هنا مساحة الفرح تتسع لتغطي كل الأماكن، وإن أردت أن تلتقط صورا فوتوغرافية لأجواء رمضان ولياليه فحدسك سيوجّهك حتما نحو هذه المدينة.

الليل في طرابلس هروب من تعب نهار طويل وصوم شاق مع حر أغسطس (آب) «اللهاب». هروب يجعل الناس تتنفس في المقاهي وتعشق حياة السهر بين «كركرات» النراجيل العامرة حتى السحور. والناس في طرابلس يستقبلون ضيوفهم ببسمات شفافة وهادئة، لا صخب فيها، يدلونهم إلى المقاهي «المميزة» ليهنأوا بـ«سهرة طرابلسية» خاصة.

سياح من مناطق لبنانية وعربية مختلفة تكتشفهم من لهجاتهم، يقصدون المقاهي المسحورة بأضواء زينة رمضان وفوانيسها الملونة، وتراهم يسارعون إلى حجز أماكنهم على الكراسي الخشبية الصغيرة وبين طاولات عتيقة بقيت آثار السهر ولياليه الماضية محفورة بين نتوءاتها، وذلك لكي يغرقوا في أجواء تسكنها البساطة، يعيشون تفاصيلها بين روائح التنباك والأصفهاني والمعسل، ويسافرون مع رائحة الكعك الطرابلسي الساخن، التي تتنفسها بمجرد دخولك إلى أي من مقاهي طرابلس الشعبية في محلة «باب الرمل».

هنا يتسمر الأطفال أمام عدسة الكاميرا حتى يطفو ضوؤها الخافت على وجوههم، فيبث فيهم صخبا غير مُتناهٍ. يركضون وراء الزوار، وهم يرددون «رمضان كريم». ثم تلتقيهم بعد الإفطار وصلاة التراويح عند زوايا وزواريب أحياء «باب الرمل» الشعبية، «يفرقعون» ألعابا نارية خافتة ويهللون بفرحهم الخاص.

السهر في مقاهي طرابلس ذو نكهة مطعمة بالانعتاق من كل شيء، من هموم الحياة العادية والعمل والحر القاسي، «وطبعا الهروب من روتين البيوت وسهراتها المضجرة» على حد قول محمد رضوان (21 سنة). محمد يسهر كل يوم مع رفاقه في «مقهى موسى» الشعبي، حيث تعيش قصص السهر حكاية أخرى. والمقهى في الحقيقة عبارة عن تجمع لمقاهٍ شعبية أكثرها يعود إلى خمسين سنة خلت، تتوزع على أرصفة الحي المكتظ بالأبنية الأثرية. أبنية كولونيالية مزخرفة، بقي بعضها متروكا للزمن ولبقايا الغبار والهواء، وأكثرها أعيد ترميمه منذ سنوات فطليت جدرانها العتيقة بألوان زاهية توحي بالحياة وتضفي على ليل المقاهي سحرا خاصا. في هذه الأبنية تسكن عائلات فقيرة ومعوزة و«مستورة»، تعيش انتعاشا اقتصاديا موسميا ينعكس على حياتها وحياة أفرادها في موسم رمضان «شهر الخير والبركات»، وفق أبو محمد الحموي. وقرب المقاهي يتوزع باعة الحلويات والفواكه وعصائر «عرق السوس» والخرنوب والجلاب فيضفون على المشهد ألقا خاصا.

محمد رضوان يأتي إلى هنا مع شلة الرفاق في كل ليلة من رمضان للتمتع بأجواء السهر، يلعبون ورق الشدة و«الدامة» ويتنافسون في ما بينهم في جو حميمي، بعيدا عن مقت الغرف والشرفات الغارقة في الظلمة. وحده تقنين الكهرباء كفيل بمنحهم فرصة للهرب من البيوت إلى فسحة الضوء واللعب والمرح وجو الشباب في «مقهى موسى» الشعبي.

التقنين الذي يعيشونه في كل دقيقة ويغرقون في سواده، لكنه يحمسهم لعيش تجربة أخرى بين ليالي رمضان العامرة. وهنا يسهرون ويضحكون ويسخر بعضهم من بعض، و«يهيصون» حتى يحين وقت السحور، فينتقلون شللا إلى أبواب الأفران الشعبية الموجودة بوفرة قرب المقاهي. وفي هذه الأفران جو جديد تختبره مع الكعكة والفرن، ففيها يجهز الزبائن أنفسهم للتركيز في خلطتهم التي يريدونها داخل الخبز الساخن. بعضهم يطلبونها «إكسترا»، مضافة إليها قطع «المرتديلا» والذرة والزيتون، وآخرون يطلبونها على بساطتها، بالزعتر أو الجبنة.

محمد الحلو (23 سنة) يزور «مقهى موسى» كلما سنحت له الفرصة مع رفاقه «البيارتة» الآتين من العاصمة بيروت، فيجولون معه بين جنباتها ويختارون «مقهى فاروق»، حيث يستقبلهم الصبية، ويُجلسونهم ويحضرون لهم الأراكيل، فيتمتعون بجلسة ممتعة حتى مشارف الصباح. محمد يؤكد أن رحلة اكتشاف طرابلس ليلا تمنحه هدوءا وصخبا في آن، إذ يقول محمد: «الحياة غارقة بالتناقضات هنا. الصخب يعشش في التفاصيل، والهدوء يرسم للوقت لذة خفية». مايا صوراتي، صحافية تعمل في صحيفة فرنسية، تقول إن هذه هي المرة الأولى التي تأتي فيها «مقهى موسى»، وتزور طرابلس في موسم رمضان. جذبتها الأجواء في تلك المقاهي الغارقة بالقدم والعراقة.. بين ثنيات الفرح المنطلق من صيحات الشباب وحماسهم وهم يتنافسون بلعب الورق.

مايا التي جالت بكاميرتها على المقاهي وبين وجوه الناس والطاولات، شعرت أنها تنتمي إلى هذا المكان مع أنها لم تعش فيه. والناس يستقبلونها بـ«عفوية وحب» على ما تقول. أغرتها رائحة الكعك فقامت بشراء الجبنة من عند بائع الأجبان والألبان «أبو راغب»، الذي قدم لها قطع الجبنة «الحلوم» البيضاء من دون تردد فتناولتها بشهية، وراحت بها إلى فرن رجب (أحد أشهر بائعي الكعك) الذي قام بحشو الجبنة في الكعكة، وهي تولت بنفسها إدخالها إلى فرن الحطب.

مايا التي فرحت بتجربة شيّ الكعكة أعجبت أيضا بطريقة تحضيرها، لأنها لم تكن تتخيل في يوم من الأيام أن تشتري كعكة وتقوم هي بتحضيرها وشيها في فرن قديم يعمل على الحطب، معلقة: «إنه شعور مميز».

يمضي الوقت سريعا في «باب الرمل».. لتنقطع أجواء السهر والأكل واللعب بعد أن يطلق المؤذن من مسجد «المعلق» القريب من المقاهي آذان الفجر، إذ يتوجه بعض الساهرين إلى المسجد ليصلوا، بينما يعلن بعضهم الآخر نعاسه فينطلق إلى بيته رغم انقطاع الكهرباء وعدم وجود «مكيف هواء» ومروحة للإنتعاش.