أم رانيا.. سائقة «الميكروباص» الأشهر في مصر

تشكو من تعنت زملائها الرجال وتحلم برخصة قيادة

أم رانيا داخل مركبتها («الشرق الأوسط»)
TT

«لم أتمالك نفسي فبكيت. لقد كان الوضع من حولي خانقا، ولم يوافق أحد على أن يستقل وسيلة مواصلات تقودها سيدة».. هكذا تصف أم رانيا (52 سنة)، التي تعمل سائقة حافلة خفيفة «ميكروباص» في العاصمة المصرية القاهرة، أول يوم عمل لها كـ«سائقة ميكروباص» في تحد واضح للسيطرة الذكورية على قيادة وسائل المواصلات العامة في مصر. وعلى الرغم من مضي سنتين على قيادتها مركبتها، ما زالت أم رانيا تعاني من استغراب الناس منظر امرأة تقود سيارة أجرة، وهو ما يطلق النكات من حولها أو يعرضها لمضايقات زملائها السائقين، لكنها تواجه الأمر بقوة إرادة واضحة قائلة «لقد اعتدت أن أكون قوية ولا أخشى أحدا».

بدأت قصة أم رانيا مع «الميكروباص» قبل سنتين عندما اشترت مركبتها بالتقسيط لتساعدها على كسب قوت يومها «بالحلال»، كما تقول. وبصوت مفعم بالتحدي قالت لـ«الشرق الأوسط»: «لم أكن أدري حينها أن الموضوع صعب وشاق إلى هذا الحد، ليس من الناحية البدنية، بل من ناحية الأعباء المادية. فأنا كنت مدينة بأقساط تبلغ 128 ألف جنيه مصري (21 ألف دولار أميركي)». وأردفت «لقد سددت جزءا كبيرا منها والحمد لله، لكنني ما زلت مدينة بمبالغ بسيطة».

اللافت أن أم رانيا لم تكن تنوي حينذاك قيادة الحافلة الخفيفة بنفسها، بل كانت تعطيها لسائقين رجال ليتولوا المهمة نيابة عنها ومن ثم يتم اقتسام العائد معهم. لكنها قالت بنبرة من الحزن «اكتشفت أنه لا يوجد رجل يمكن الاعتماد عليه. لقد أساءوا معاملتي وسرقوني، والأدهى أنهم عرضوا الميكروباص مصدر رزقي الوحيد لحوادث عدة». وهذا ما جعل أم رانيا تقرر أن تقود «الميكروباص» بنفسها بالتناوب مع ابنتها رانيا (32 سنة)، التي تتسلم المقود في أوقات راحة والدتها، كما تجهز أم رانيا فترات أخرى لفتاة ثالثة تقول إنها «يُعتمَد عليها وبـ100 راجل». أم رانيا لا تمتلك تاريخا جيدا على الإطلاق مع الرجال، فبالإضافة للسائقين الذين تلاعبوا بها بخصوص مركبتها، فإنها لا تلقى ترحابا أو مودة من السائقين الذين يعملون معها على المسار نفسه. فهم يضيقون عليها حياتها ويتندرون منها، غير أنها تصر على القول «لا أعير كلامهم أي اهتمام.. لقد اعتدت على ذلك». وحاليا تقود أم رانيا مركبتها التي تستوعب 14 راكبا في طريق المقطم، أحد أكثر طرق القاهرة خطورة ووعورة، وهو ما يتطلب دقة ومهارة فائقة من سائقي السيارات والحافلات العامة على حد سواء. لكن أم رانيا، التي رافقتها «الشرق الأوسط» في رحلتها، تقود بتعقل كبير وبسرعة معقولة لتصل إلى مقصدها بسلام.. موضحة «ليس المهم أن أصل سريعا.. بل أن أصل وركابي بسلام وسلامة». مع هذا، فإن نظرة أم رانيا المتعقلة حول القيادة لم تساعدها كثيرا في التغلب على مخاوف كثرة من الركاب الذين ما زالوا يرفضون استقلال «الميكروباص» معها، وعنهم تقول «البعض يتخوف من الركوب معي، لأنهم يظنون أنني غير جديرة بالقيادة». لكنها تغلبت على الأمر برمته معتمدة حيلة بالغة الذكاء، إذ «شكَلت» شعرها على طراز «ذيل حصان» واعتمرت غطاء رأس رياضيا أخفت فيه شعرها، مما يجعل الركاب حائرين في هويتها. ونجحت الحيلة إلى حد كبير. غير أن ركابا آخرين قالوا لـ«الشرق الأوسط» إنهم يشعرون أصلا بطمأنينة أكبر عندما يكونون في مركبة أم رانيا، بينهم هشام مصطفى (34 سنة) الذي يعمل مهندسا، وقال لنا «نحن نعرفها جيدا. إنها سيدة محترمة جدا وتسعى لكسب رزقها بالحلال»، وأضاف بحماس شديد «ليت كل السائقين من النساء».

ولعل ما يعزز كلام مصطفى أن كثيرين من سائقي «الميكروباص» سيئو السمعة لجهة التعدي على آداب الطريق، من السير عكس الاتجاه إلى السير بسرعات هائلة، لذلك تفضل نسبة عالية من السيدات الركوب مع أم رانيا. وتقول إحداهن، دعاء أحمد، وهي طالبة جامعية عمرها 23 سنة، «أم رانيا تختلف عن كل السائقين، فهي تتعامل بأدب جم ولا تتطاول على أحد». وأيدتها في هذا بسمة أحمد (29 سنة)، التي قالت «أحرص على أن أستقل مركبتها، لتفادي مضايقات السائقين».

هذه الشعبية الرائعة وسط بنات جنسها تعود في المقام الأول إلى شهامة أم رانيا. فهي تكتفي بزبائنها من النساء دون الرجال ليلا عندما تشح وسائل النقل، وذلك كي تجنبهنّ الانتظار الطويل في الشارع وبالتالي التعرض للمضايقات. وهو ما جعلها ذائعة الصيت في منطقتها كملاذ كل النساء عندما تتقطع بهن السبل ليلا. من ناحية أخرى، تنصح أم رانيا الراغبات في قيادة وسائل النقل من السيدات بالحرص الشديد، والتأني، وتعلم أساسيات الميكانيكا والكهرباء للتغلب على المصاعب التي ستواجهن، وتوضح «البداية دائما صعبة، لكنها جد سهلة بعد ذلك». وهي مقتنعة بأنه «بمرور الوقت ستصبح الأمور أيسر بالنسبة للسيدات».

أخيرا، على الرغم من عملها اليومي الشاق فإن أم رانيا حريصة على ألا تهمل واجباتها المنزلية، وهو ما يجعلها شديدة التنسيق مع ابنتها في كل ما يحتاجه المنزل، وأيضا بخصوص إعداد ابنتها للزواج. وفي عالمها الصغير الذي يقتصر على ابنتها ومركبتها فإن كل ما تحلم به أم رانيا هو أن تصدر لها وزارة الداخلية رخصة قيادة لمركبتها، فأم رانيا لا تزال تسير في شوارع القاهرة من دون رخصة قيادة مما يعرضها لمضايقات أمنية. لكنها مع ذلك قالت «بعكس الشائع، كمائن الشرطة لا تتعرض لي. بالعكس إنهم يتعاطفون معي تماما، ويعاملونني أفضل معاملة.