لبناني يمضي 35 سنة في صنع الآلات الموسيقية التاريخية بعضها يعود لآلاف السنين

من بينها «الكنارة السومرية».. الأقدم في العالم

من آلات مخول الموسيقية الوترية التاريخية («الشرق الأوسط»)
TT

ناصر مخّول موسيقي وباحث لبناني ليس كغيره من الموسيقيين والباحثين في تاريخ الموسيقى. لقد أمضى مخّول 35 سنة في التنقيب عن تراث الماضي السحيق، وتطور الآلات الموسيقية التي عرفتها حضارات قديمة كالحضارات البابلية والآشورية والفرعونية والفينيقية والرومانية واليونانية. واليوم يعود معظم المجموعات التي يمتلكها إلى أيام المصريين القدماء (الفراعنة)، الذين كانوا يعزفون عليها في مناسبات تحنيط ملوكهم، بينما آلات الفينيقيين قليلة لديه، لأن اهتمامهم كان يتركز على التجارة والإبحار، كما يشرح. أما أهم ما أنجزه مخّول في هذا المجال فهو إعادة تصنيع 52 آلة كانت رائجة منذ 3 آلاف عام قبل الميلاد وحتى القرن السابع عشر، دون أن ينسى إعادة تصنيع آلات من تراث بلاده الأقل بعدا عن الذاكرة.

«سندباد التراث اللبناني»، وهو لقب أطلقته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) على ناصر مخّول، قال لـ«الشرق الأوسط» في لقائها معه: «حصلت على مستندات الآلات التاريخية من الصور التي التقطتها خلال رحلاتي، من داخل أهم متاحف العالم، ومنها متاحف بغداد وبرلين وباريس والقاهرة، بالإضافة إلى متاحف لبنان، وكذلك من صور لنقوش على آثار جمعتها من 12 بلدا في العالم، ورسمت في ما بعد خرائطها».

وأضاف الرسام والمغني والباحث التراثي: «بعدما رسمت الخرائط وجدت نفسي في طريق إبداعي مميز، أضع فيه كل طاقاتي الفنية والصناعية والموسيقية، وذلك بعد 1200 ساعة عمل، خصصتها للخوض في تفاصيل الآلات ومقاييسها».

في عام 1968 أسس مخّول «الفرقة الفلكلورية السياحية اللبنانية»، التي انطلقت في إحياء المهرجانات السياحية، وراح يحيي معها أسابيع لبنانية ومهرجانات ثقافية في جولات بلغت 173 رحلة وشملت 37 بلدا في العالم. وكان حريصا خلال هذه الجولات على تقديم تراث لبنان الموسيقي عبر «طبلة جبيل» و«ناي جبران» و«مزمار بعلبك» و«بُزُق بيروت» و«مُجوِز زحلة»، ومع هذه الآلات الرقص الشعبي والملابس التي ترمز إلى كل منطقة.

إلى 4 مجموعات تنتمي آلات ناصر مخّول الموسيقية، هي: الآلات التاريخية، والآلات التراثية اللبنانية، والآلات الموسيقية المصنوعة من المواقع الأثرية في لبنان، والآلات الموسيقية المستحدثة والمطورة.

بين هوائية ووترية وإيقاعية ورنانة، أخذ مخول يصنع آلاته منذ عام 1980، منزويا في محترفه الجبلي ببلدة عجلتون، في قضاء كسروان، شمال شرقي بيروت، يرسم ويخطط وينفذ.

أثناء تجوالك داخل المحترف تلفتك آلة «الكنارة السومرية» - وهي من الآلات الوترية - التي وجدت في مدينة أور التاريخية في جنوب العراق، وهي تتصدر الآلات الـ52 التي أعاد تصنيعها، ولا تزال في متحف لندن حتى اليوم، وهي تعتبر أقدم آلة موسيقية في التاريخ بل هي رمز للتراث الموسيقي العالمي.

عشرات الآلات الموسيقية يضمها محترَف مخّول، ابن بلدة جون في قضاء الشوف بجنوب جبل لبنان، منها 42 آلة موسيقية تعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي وحتى اليوم. وفي عداد آلات النفخ تجد المزمار الحجري والروماني، وأرغن الفم، والصفدة، والناي الأحادي، والقرن. وفي عداد آلات القرع تستوقفك الدربكّة، والطبل الفرعوني، وقمقم سليمان، والطنبور المستطيل. وبين آلات العزف نتعرف على اللير الإغريقي، وآلة الأنيس، وآلة سارة، والعنّيَزة.

ثم هناك آلات تكنولوجية وعصرية لها مكانتها الخاصة في قلب مخّول ومحترفه، بعدما دمج فيها بين عراقة الأوتار وآخر ما توصلت إليه تقنيات الموسيقى الحديثة، وفي ذلك يشرح: «العود - أرغن (أو العود - أورغ) آلة على شكل عود تحوي 36 آلة أبرزها البيانو، والأرغن، والساكسفون، والكلارينيت، والقانون، والعود، والناي، فضلا عن الإيقاعات. أما (الرباعي) فهي آلة تشمل العود والبزق والناي والهارمونيكا، يقابلها على منصات خشبية آلة (رباب – كمان) التي تحوي الرباب والكمان في وجهيها الأول والثاني».

مخّول حاز بفضل إبداعاته نحو 46 درعا تكريمية ووساما وميدالية تقديرية، أهمها: وسام جائزة لبنان للإبداع، ودرع الموسيقار محمد عبد الوهاب، ودرع قيادة الجيش اللبناني، وجائزة المهرجان العالمي للموسيقى من الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان عام 1980 في باريس، بالإضافة إلى شهادات عديدة من منظمات عالمية أهمها «اليونيسكو».

ولقد صنع مخّول آلاته التاريخية ببساطة، محافظا في صنعها على طريقة استعمال الإنسان الأول لها، وهي مصنوعة من الخشب المتين، القديم العهد والرنان، أما الأوتار فمأخوذة من ذيول الخيل وجلود العجول البرية. غير أن الأمر لم يخل من مصاعب، لا سيما المالية منها، وهو يوضح في هذا الشأن أن «مصادر التمويل كانت من (مؤسسة عصام فارس) ووزارة الثقافة اللبنانية، ومن مشاركتي في المهرجانات الصيفية، وتنظيم المعارض في مدارس لبنان». أما الفضل في تبنيه معنويا من قبل المكتب الإقليمي لمنظمة «اليونيسكو» في بيروت، فيعود إلى «مؤسسة عصام فارس» التي ساعدته على إقامة معرضه في «اليونيسكو» عام 2003. وأنتج المكتب له فيلما وثائقيا باللغتين العربية والإنجليزية، بالتعاون مع الجامعة اللبنانية ووزارة الثقافة جرى توزيعه في معظم أنحاء العالم.

من ناحية أخرى، يؤكد مخّول، الذي انضم إلى نشاطات «المجتمع العربي للموسيقى» التابع لجامعة الدول العربية، أن آلاته في كل المجموعات «ليست للبيع، بل هي للدعم العلمي والتربوي، وإنني أسعى إلى وضعها في متحف خاص ببيروت قريبا وبرعاية مؤسسة ثقافية مهمة».

كذلك سيضيف مخّول، بالتعاون مع المتحف الوطني في لبنان والجامعة الأميركية في بيروت، آلات تاريخية من أفريقيا والهند والشرق الأقصى إلى مجموعاته. وللعلم، وثقت آلات مخّول وثبتت مراجعها في متحف الجامعة الأميركية في بيروت، وافتتح بها اليوم العالمي للمتاحف في 17 مايو (أيار) الماضي.