«عم سيد» أقدم قهوجي بالإسكندرية: أنا ترمومتر الوضع الاقتصادي في البلاد

من أشهر زبائنه الفنان رشدي أباظة والملك إدريس السنوسي

«عم سيد» مع اثنين من زبائن المقهى («الشرق الأوسط»)
TT

كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف مساء يوم 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما فوجئ «عم سيد» القهوجي بعدد من الشباب من رواد «مقهى والي» الشهير حيث يعمل، في منطقة كامب شيزار بوسط مدينة الإسكندرية المصرية، يهرولون نحو المقهى وينادون عليه من بعيد: «عم سيد.. عم سيد».

لم يكن من الصعب على «عم سيد»، أقدم قهوجي في «عروس المتوسط» أن يدرك بفطنته الذكية وخبرة عشرات السنين أن ثمة من يطارد هؤلاء الشباب وأنهم بحاجة إلى مخبأ سريع. فهو يعرف أنهم ممّن يعملون بالسياسة ومهن أخرى تتصل بها كالصحافة والمحاماة وغيرها، ثم إنه يعرفهم جميعا بالاسم، وبينه وبينهم علاقة محبة.

وفي غضون لحظات معدودة أدخلهم «عم سيد» إحدى عيادات الأطباء، حيث الممرّض الذي يعمل فيها من زبائن المقهى، في حين لم يكن الطبيب قد وصل بعد، وكانت العيادة التي تحولت إلى مخبأ للثوار تقع في الدور الأول فوق المقهى تماما. وبعد لحظات قليلة وصلت مجموعات كبيرة من جنود وضباط الأمن المركزي يتقدّمهم ضابط بزي مدني، سرعان ما أخذ يسأل في كل مكان عن هؤلاء الذين كانوا يشاركون في مظاهرات غاضبة ضد نظام الحكم، وكان بينهم أعضاء في ائتلاف شباب الثورة بالإسكندرية. لكن قوة الشرطة القوية فشلت حينئذٍ في العثور عليهم. وفي هذه الأثناء تظاهر «عم سيد» بأن شيئا لم يكن، إذ قال للضباط إنه لم يرَ أولئك الشباب، ومن ثم دعا الضباط للجلوس في المقهى لتناول مشروبات للترحيب بهم.. لكنهم انصرفوا.. ونجا الشباب المختبئون من الاعتقال.

عم سيد الأزهري (63 عاما) يعمل بهذه المهنة منذ كان عمره 10 سنوات. وهو يروي أنه عمل في عدد كبير من المقاهي والكازينوهات السياحية والفنادق في مصر، إلى أن استقر به المقام في «مقهى والي»، أحد أشهر مقاهي الإسكندرية، منذ عام 1984 وحتى الآن.

ثم يضيف: «لقد عاصرت عهود حكام مصر (الجمهورية) الثلاثة حتى الآن، وقد اختلف حال المقاهي وزبائنه في كل عهد عن الآخر. في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان زبائن المقهى غالبا من المتقاعدين (أو أرباب المعاشات) الذين أنهوا خدمتهم بالعمل الحكومي وكانوا يأتون لتسلية أوقاتهم، أما في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات فقد شهد حال المقاهي انتكاسة كبرى نظرا لانتعاش الأحوال الاقتصادية إلى حد لم يترك للناس متسعا من الوقت للجلوس على المقاهي، ولا سيما أن حركة الميناء ما كانت تتوقف.. باختصار كان الجميع منشغلا بأعمال أغلبها تجارية».

ويواصل «عم سيد» كلامه: «أما في عهد (الرئيس السابق حسني) مبارك فقد شهدنا (العصر الذهبي) للمقاهي، وخاصة منذ النصف الثاني من عقد التسعينات حين بدأت الأزمة الاقتصادية تتفاقم في البلاد، وكثرت أعداد العاطلين عن العمل من الخريجين الجامعيين والفنيين وأصحاب الحرف، وهو ما جعل هؤلاء لا يجدون منفذا لهم سوى الجلوس على المقاهي».

«عم سيد» يعتبر نفسه - ومن يعمل في مهنته - بمثابة «الترمومتر الحقيقي والواقعي للوضع الاقتصادي في مصر»، مشيرا إلى أن «الوضع بعد الثورة لم يختلف كثيرا عنه قبلها.. إلا في نوعية الزبائن ومواضيع أحاديثهم». ويؤكد أن «جميع الزبائن أصبحوا يتكلّمون في السياسة بعد الثورة، حتى أن المقهى تحوّل إلى ما يشبه المنتدى السياسي الثوري، وكل منهم يرى أن لديه الحل الأمثل لإقالة البلاد من عثرتها الاقتصادية التي وصلت إلى ذروتها أواخر عهد الرئيس السابق مبارك».

وعن ذكرياته مع أشهر زبائنه، يقول «رشدي أباظة، الفنان الكبير، كان أهم زبون بالمقهى الذي كنت أعمل فيه في السبعينات بمنطقة كورنيش سبورتنج. وكان يحب تناول الأرز باللبن لكن من دون مكسّرات خوفا من السمنة، وهو بالمناسبة حال معظم الفنانين. وكان أباظة صاحب أكبر مبلغ بقشيش (إكرامية) أحصل عليه في تاريخ حياتي، إذ بينما كان ثمن الأرز باللبن 10 قروش كان رشدي أباظة يعطيني 10 جنيهات كاملة!!.. وهو ما يعني بمقياس هذا العصر، الذي وصل فيه سعر الأرز باللبن بالمقاهي إلى 10 جنيهات، أنه كان يدفع ألف جنيه بحسبة هذا الزمن وهو مبلغ خيالي بكل المقاييس».

كذلك يتذكر «عم سيد» زيارة الملك إدريس السنوسي - عاهل ليبيا آنذاك - في عام 1961 لحضور حفل افتتاح فندق رأس البر بالساحل الشمالي المصري مع كبار المسؤولين المصريين في هذا الوقت، وكان ذلك الفندق هو المكان الذي عمل فيه عندما كان عمره 12 سنة. ويومذاك كان مكلفا بتقديم باقة زهور للملك عند استقباله إبان حفل الفندق، وهنا يتذكر قائلا «في ذلك اليوم أمر الملك إدريس السنوسي بصرف ألف جنيه للعاملين بالفندق هديّة منه بمناسبة الافتتاح، وهو مبلغ يساوي مليون جنيه بحسبة الزمن الحالي»، ويضيف: «كان نصيبي من هذا المبلغ كبيرا جدا وقتها.. وهو نحو عشرة جنيهات».

ومن زبائن «عم سيد» أيضا ممثلون ومطربون كثيرون منهم: محمود عبد العزيز ووحيد سيف وسيد زيّان وحسن مصطفى وعلي الحجار ومصطفى قمر، وهو يشير إلى أنهم جميعا من أكبر الذواقة في تدخين النرجيلة (المعسّل) وأنه يعرف طلباتهم قبل أن يطلبوها.. «أي واحد منهم بمجرد وصوله.. بعد ثوان يجد الطلبات التي يحبّها وقد قمت بإحضارها له قبل أن يطلبها هو مني».

من ناحية أخرى، لـ«عم سيد» هواية غريبة لكنه يقول إنها أفادته في عمله كثيرا، فهو يهوى استقبال زبائنه عند وصولهم وتسلّم سياراتهم منهم، ثم قيادتها بنفسه تمهيدا لركنها لهم في أماكن خاصة بحجزها لزبائنه. وهو ما يوفر لهم الراحة من عناء البحث عن مكان لركن سياراتهم خاصة مع تفاقم الأزمة المرورية في الإسكندرية.

أضف إلى ذلك أن «عم سيد» يجيد أربع لغات بخلاف العربية هي: الإنجليزية واليونانية والفرنسية والإيطالية، مما يمكّنه من التفاهم مع الزبائن الأجانب الذين كثيرا ما يتوافدون على المقهى ويطلبون منه طلبات بلغاتهم. وهنا يقول «في فترة الستينات والسبعينات كان هناك العديد من الأجانب، وكنا نسميهم طبقا للعرف في مصر «الخواجات»، وكان هؤلاء يديرون كل المؤسسات السياحية التي عملت فيها في مقتبل عمري مثل فنادق «سان ستيفانو» و«هلنان» و«سيسيل» وغيرها، وكان هؤلاء يحرصون على تعليم العاملين عندهم مبادئ اللغات ليتمكنوا من التعامل مع النزلاء والضيوف».

أخيرا، في نهاية اللقاء، يذكر «عم سيد» أن أولاده الخمسة، وهم ابنان أحدهما محاسب والآخر طالب، وثلاث بنات صيدلانية ومحاسبة ومعلمة، لا يكفّون عن مناشدته أن يستريح ويجلس في المنزل بعيدا عن مشقة العمل الذي يضطره إلى الوقوف على قدميه لأكثر من اثنتي عشرة ساعة متصلة يوميا. غير أنه يرفض قائلا: «أتمنى أن أستمر في عملي حتى أموت، فأنا لا أطيق البعد عن زبائني وأحاديثهم وهمهماتهم ومزاحهم الجميل، وطبعا طلباتهم المستمرة».