العصر الذهبي للجبة التونسية ذهب مع من كانوا يلبسونها باقتدار

بدأ التراجع عن ارتدائها منذ عقد السبعينات من القرن الماضي

العم محمد المرناوي .. وخلفه جبة تقليدية («الشرق الأوسط»)
TT

يبدأ الحاج محمد المرناوي عمله كحرفي تطريز للجبة التونسية في دكانه الصغير بعد صلاة الفجر مباشرة. فقد دأب على هذا العمل منذ نعومة أظافره، وملأ عليه عمله حياته، لدرجة أنه ما عاد يستطيع العيش من دونه، كما قال لـ«الشرق الأوسط» التي زارته في عرينه وواكبت عملية تطريزه للجبب أو (الجبايب)، كما يطلق عليها التونسيون.

الحاج محمد المرناوي (77 سنة) روى لنا مشوار حياته مع المهنة، فقال «بدأت هذا العمل متدربا عندما كان عمري 5 سنوات. لقد دخلت الميدان مبكرا، وهي عادة لم تعد قائمة اليوم، مع أن المثل يقول التعلم في الصغر كالنقش على الحجر..».

وفي مقارنة بين حال مهنة تطريز الجبة في السابق والحاضر، قال: «الصنعة (الحرفة أو المهنة) كانت رائجة في الماضي أكثر مما هو حاصل اليوم. كان أصحاب الصنعة كثرا، والإقبال على الجبة أكثر، أما الآن فقد قل الصنايعية (الحرفيون) وقل الإقبال على لبس الجبة التونسية». واسترسل المرناوي في الحديث عن صعوبة صناعة الجبة، شارحا «تكتسي صعوبة بالغة، فليس بإمكان أي كان إتقان عملية الغرز والتطريز، بل التفصيل والخياطة. ولا يمكن أن يقوم بجميع ما تحتاجه الجبة شخص واحد بل تحتاج لأربع صنايعية حتى تكتمل وتصبح جبة. فهناك صنايعي يقوم بتفصيلها، وآخر يقوم بوضع الزينة، والثالث يبشمرها (ينقشها)، والرابع يركب لها الحواف، فهي تمر على أيد مختلفة الاحتراف حتى تحضر الجبة».

وأوضح أن «جميع الأقمشة يمكن أن يصنع منها جبب إضافة للصوف، ولكن هذا النوع انقرض أو كاد»، مضيفا: «هناك الجبة القمرايا، وهي القمرايا الشخمة (الرمادية) والقمرايا البيضاء، وتلبس القمرايا غالبا في الصيف. أما في الشتاء فتلبس كمردين، أو ملف، وهناك جبب من القطن، وأخرى من الصوف وهي ذات جودة عالية بيد أنها لم تعد موجودة، وطبعا هناك جبايب الحرير».

أما عن الفترة الزمنية التي تستغرقها عملية إعداد الجبة، فأشار العم محمد المرناوي إلى أنها «تحتاج لأربعة أيام، فكل حرفي تبقى الجبة لديه يوما على الأقل حتى يكمل ما تحتاجه، لأن لديه أعمالا أخرى يقوم بها»، وكرّر من ناحية أخرى، استحالة تمكن شخص واحد فقط بإنجاز كل ما تحتاجه الجبة من عمل «فكل شخص له اختصاصه، لكن في الماضي من الأيام كان يتوجب على العرف (بفتح العين وضم الفاء، وهو رئيس العمل) معرفة جميع التخصّصات ليس بالضرورة ليمارسها ولكن لمراقبة جودة العمل، وغالبا ما يكون كبيرا في السن بينما العمال يصغرونه سنا».

وبخصوص العصر الذهبي للجبة، قال: «العصر الذهبي للجبة ذهب مع الذين كانوا يلبسون الجبة بتفان، وكانوا يحرصون على الظهور بمظهر يشرّفهم ويشرّف ما يلبسون، فليس كل من لبس جبة وفاها حقها». وتابع: «كان الإمام لا يقف في محراب الصلاة إلا وهو يرتدي جبة تليق بمقام الإمامة. وكان مدير المدرسة والمدرّس والأستاذ يرتدون جببا تحفظ هيبة العلم، وكان العريس مميزا بجبته ليلة زفافه، وكان القاضي يتميز بجبة خاصة فيعرفه كل من لاقاه في الشارع». وأردف: «ظل الوضع في تونس على هذا الحال، ولا سيما في الأربعينات والخمسينات والستينات، غير أن الوضع بدأ يتغير في السبعينات، فأدعياء الحداثة تركوا الاهتمام بالتكنولوجيا وركزوا على تغيير العادات والتقاليد الشعبية في محاولة فاشلة للحاق البلاد بالغرب».

وحول غلاء الجبة والأسعار المرتفعة للملابس التقليدية، التي تصل إلى نحو 350 و400 وحتى 500 يورو للجبة الواحدة، قال المرناوي: «الجبة لباس من يدركون قيمة اللباس، وهو ما يعكس شخصية الإنسان من خلال المظهر الخارجي. اختيار الإنسان للباسه ليس بعيدا عن شخصيته وميوله، بل اللباس يعطي الانطباع العام عن الشخص. أضف إلى ذلك أن سعر المتر الواحد من القمرايا يصل إلى 60 دينارا (30 يورو تقريبا)، والشريط الرفيع للجبة سعره 50 دينارا، وحرج الجبة المطرز بـ50 دينارا، والكلفة الإجمالية للجبة عندي تصل إلى 300 و350 دينارا.. لكنها جبة ممتازة ومحترمة».

ورغم تراجع الإقبال على الجبة، وقلة الحرفيين فإن العمل لا يزال مستمرا، وعندما سألنا العم محمد عما إذا كان المرء بمبلغ 300 دينار يستطيع اقتناء جبة من الطراز الرفيع، ردّ بالإيجاب واستطرد ولكن «يجب الانتظار شهرا كاملا، لأن لدي أعمالا فنحن لسنا مكتوفي الأيدي. فمدة الأيام الأربعة هي الفترة التي يبدأ فيها الحرفيون التعاطي مع القماش إلى أن تعدّ الجبة على أصولها المتعارف عليها.. ومنها الفرملة والصدرية والمنتان».

ولأن هناك حركية، وإن كانت دون المستوى السابق في سالف الأيام، كان السؤال عن عدم وجود متعلمين جدد للحرفة العريقة في تونس. فأجاب العم محمد «هذه هي المشكلة، ففي الماضي كان التعليم محدودا والمدارس قليلة وبعيدة، ولذا لجأ الأهالي لدفع أبنائهم لتعلم صنعة.. أما اليوم فالمدارس كثيرة وليس هناك تسرب أي فائض يذكر، كما كان الحال في الماضي». وأمر آخر أشار إليه العم محمد هو أنه «في ماضي الأيام لم تكن هناك ملاهٍ ومقاهٍ وتلفزيونات تشغل الأطفال عن تعلم صنعة.. كما هو الحال اليوم».

ويعود العم محمد المرناوي للحديث عن العصر الجميل، العصر الذهبي لصناعة الجبة مختتما كلامه: «كان هذا الشارع يعج بصنايعية الجبة الكبار، وعندما يمرّ الصغار من هنا لن تلحظ سوى الاحترام وهيبة الكبار.. حسن تربية الصغار واحترام الكبير ما عادا أيضا كما كان سائدا في الماضي».