شيخ النحايسية الزرمديني: العائدات مجزية والتحدي هو من يرث الصنعة

صاحب أكبر قدر نحاسية في العالم: صناعة النحاس أتت إلى تونس من العراق

الزرمديني: نشتكي من قلة العمال
TT

يعد النحاس من المعادن التي عرفها الإنسان منذ آلاف السنين، وتعد بلاد الرافدين من أوائل المناطق في العالم التي عرفت صناعة النحاس، حيث استخدمه الإنسان قبل 10 آلاف سنة، وبدأ صهر النحاس في الألفية السادسة قبل الميلاد. لكن أول من استعمل أنابيب النحاس لتوصل المياه كان المصريين القدامى، وقد تم العثور على 1300 قدم من الأنابيب الأثرية النحاسية في معبد هرم أبي صير (2750/ 2625)، وقد أشار القرآن في الآية 96 من سورة الكهف إلى تقوية الحديد بالنحاس، وقد تمت الاستفادة من ذلك حديثا، فإضافة النحاس، أو القِطر بالتعبير القرآني، يضاعف من قوة السبائك.

ويضاف النحاس إلى الذهب بكميات قليلة لإعطاء الذهب الصلابة الكافية في تصنيع المصاغ أو المصوغ، ويستخدم في تصنيع العملات المعدنية النقدية، كما يدخل في صناعة البرونز، وفي الصناعات الحربية، وبعض الآلات الموسيقية كالقانون. ويقول العلماء إن النحاس مادة جيدة لتوصيل الكهرباء، ويستعمل في صنع البطاريات وفي الكثير من المعدات الطبية والإنزيمات، وبذلك يحافظ على نشاط وصحة القلب والعظام والأعصاب والدماغ والكريات الحمراء، ويساعد على استخراج الطاقة من الطعام، وينتج مواد مشابهة للهرمونات تساعد على تنظيم ضغط الدم ونبضات القلب، وعلى سرعة التئام الجروح، كما يساعد في تخفيف الآلام ومعالجتها، ويحمي الخلايا من التأكسد. وللنحاس فوائد طبية كبيرة لا يتسع لها المقام.

وقال شيخ النحايسية في تونس والأمين السابق لصناعة النحاس في تونس، الحاج عبد الكريم الزرمديني لـ«الشرق الأوسط»، إن دولة تشيلي هي أكبر منتج للنحاس بنسبة 37 في المائة، تليها إندونيسيا بنسبة 10 في المائة، ثم الولايات المتحدة بنسبة 9 في المائة، ثم أستراليا بنسبة 8 في المائة، و36 في المائة من الإنتاج موزعة على بقية دول العالم ومن بينها الصين واليابان. وتابع: «هناك دول تقوم بتصفية النحاس، من بينها ألمانيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية».

يبلغ الحاج عبد الكريم الزرمديني، صاحب أكبر قدر من النحاس في العالم، من العمر (72 عاما)، لكنه يبدو كما لو أنه في العقد الخامس، وكلماته لا تزال مفعمة بنبرة الشباب، وسر ذلك كما قال لـ«الشرق الأوسط»: «تعود للإيمان بالله، وخلو الذهن من التفكير فيما تكفل الله به، ومنه الرزق والحياة.. ثم لصناعة النحاس التي هي رياضة مفيدة للجسم».

بدأ الحاج الزرمديني العمل في مهنة النحاس منذ ريعان الصبا، وتحديدا سنة 1952 عندما كان عمره 12 سنة. ويؤكد أن «صناعة النحاس قدمت إلى تونس من العراق في العهد العباسي، عن طريق رجل يقال له الصفار أو مجموعة صفارين، وهو ليس لقبا بقدر ما هو اسم فاعل، فسوق النحاس في العراق يسمى سوق الصفارين».

يذكر شيخ النحايسية في تونس بدايات تدربه وتمرسه في الصنعة قبل نحو 62 سنة، على يد صنايعي عريق يدعى الجوادي. وكان سر الحرفة في الغرام بها، «أحببت هذه الصنعة إلى حد الغرام بها، وكنت نشطا جدا مقارنة بأقراني في ذلك الوقت، وقد علمت الصنعة لثلاثة من أبنائي، وعدد آخر ممن أصبحوا اليوم من الصنايعية الكبار»، ويشيد الحاج الزرمديني بأحد أبنائه (عبد الوهاب) الذي كان موجودا في الورشة والمعرض المجاور لها، حيث «قام بتطوير الصنعة وأضاف إليها، فما تعلمته كان خاصا بالمطبخ من أواني طبخ وأكل وشراب، كالقدور والصحون والمداكات النحاسية، والأباريق والكؤوس، والدلات لصنع القهوة، والأواني التي تستخدم في الحمامات البخارية، أما الآن فتصنع قواعد للفناجين ومرشات الزهور والنوافير، والأطباق وأواني وضع الزهور (المزهريات)، وأواني وضع المكسرات والفواكه، والشمعدان، وآلات رحى القهوة بالطريقة التقليدية، وما يتعلق بالديكور كمغلفات الفوانيس، وتزويق الفضاءات العمومية. بل تم تطوير الأدوات القديمة بحيث تتسق ومتطلبات الحياة المعاصرة».

ومما شاهدته «الشرق الأوسط» في معرض الزرمديني، صناعة أواني طعام على شكل معالم تاريخية كالأهرامات في مصر، أو على شكل سفينة وأشكال هندسية مختلفة وغير ذلك. إضافة لإدخال النحاس في صناعة الخشب، حيث يستخدم في بعض مفاصل القطع الخشبية ليزينها ويعطيها رونقا وجمالا إضافيين.

وعما إذا كان تعلم مهنة تصنيع النحاس صعبة، نفى الزرمديني ذلك، «كل من يحب هذه المهنة ويرغب بشغف في تعلمها تكون في متناول يديه، وهي عصية على الأغبياء ومن ليست لهم همة أثناء التدريب والتعلم»، ويتابع: «لدي في الميدان 56 سنة وعمري 72 عاما، وما زلت قوي البنية، فقد بدأت العمل وعمري 12 سنة وأعتبر صنعة النحاس رياضة».

عمل الحرفي عبد الكريم الزرمديني، طويلا كعامل في ورشات الآخرين، إلى أن تمكن من جمع قدر من المال أهله لفتح ورشة خاصة به. ويؤكد أن ميدان النحاس يدخله أقوام ويخرج منه آخرون، ويلبث فيه من آنس في نفسه القدرة على الاستمرار. واشتكى الزرمديني من قلة المقبلين على تعلم صناعة النحاس، على الرغم من العائد المجزي للعاملين في هذا القطاع، خلاف قطاعات أخرى: «لا يوجد اهتمام من قبل المسؤولين، ولا توجد حوافز للشباب من أجل الإقبال على تعلم مهنة تصنيع النحاس، ولذلك تعاني الصنعة من قلة اليد العاملة»، وحول تأثير الألمنيوم واللينوكس وغيرهما على مبيعات أواني النحاس، أشار إلى أن «هناك تأثيرا ولكن النحاس يظل في المقدمة لمن يعرفون الفوائد الصحية». ويستشهد بدراسة ألمانية تشيد بأواني النحاس، وقد اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، وخلاصة الدراسة أن «الأواني النحاسية أفضل الأواني للطبخ، لأنها تعمل على قتل الجراثيم التي تتسبب في الكثير من الأمراض». وتضيف الدراسة أن «الأواني النحاسية لديها قدرة على قتل الخلايا البكتيرية والقضاء عليها تماما، وبالخصوص البكتيريا التي تتكاثر في اللحوم والأطعمة، وبقية الأواني ضارة بصحة الإنسان، ويستثنى من ذلك الأواني الزجاجية غير القابلة للكسر».

وبخصوص فكرة صناعة أكبر قدر في العالم أفاد بأن «الفكرة طرحت في سنة 1990 بعد الركود السياحي على أثر الحرب على العراق، لذلك طرحت فكرة صناعة أكبر قدر في العالم، لا سيما أن المغرب صنع أكبر جفنة كبيرة، فقمت بصناعة قدر ارتفاعها نحو 4 أمتار، وتتسع لـ25 خروفا ونحو ألف كيلو كسكسي، وقمنا بطبخ الطعام في احتفال بهيج برقادة (ضواحي القيروان) بحضور فرق الفن الشعبي، بزعامة المرحوم إسماعيل الحطاب، وكان يوما بهيجا، وبعد أسبوع من ذلك الحدث امتلأت الفنادق التونسية بالسياح».

لم تستخدم أكبر قدر في العالم حتى الآن مرة واحدة، بل استخدمت عدة مرات، وتم نقلها لعدة عواصم في أوروبا في أثناء حملات تنشيط السياحة الخارجية في تونس.

في عام 2000 حصل الحاج الزرمديني على الجائزة الأولى للصناعات التقليدية، ولم يكن تجسيده لفكرة أكبر قدر في العالم إنجازه الوحيد، فقد صنع نخيلا من النحاس وضع على مشارف تقاطعات الطرق الكبرى، كما صنع أكبر إبريق شاي في العالم، حسبما ذكر أحد أبنائه، الذي يعمل معه في الورشة نفسها والمعرض الملاصق لها.