آخر السراجين في تونس: لم يبق لي من الصنعة سوى الذكرى

خليفة بلخيرية لـ«الشرق الأوسط»: جميع من كانوا في السوق ماتوا ولم يبق أحد سواي

خليفة بلخيرية في محله («الشرق الأوسط»)
TT

لم يكن هناك أي أثر يدل على أن ذلك المكان المملوء بالسلع الرخيصة الوافدة من الصين وجنوب شرقي آسيا، كان سوقا للسراجين، أو باللهجة التونسية «البرادعية»، يعج بالعشرات من الحرفيين. بل لم نعثر على آخر السراجين، العم خليفة بلخيرية، في نفس ذلك المكان الذي يضيق بما فيه، سوى بشق الأنفس، وبمساعدة من أحد الباعة. وعندما توجهنا إلى المحل الفارغ سوى من ذلك الشخص الذي تجاوز الثمانين عاما، لم نعثر على ما عثرنا عليه في دكان آخر السراجين في سراييفو (البوسنة والهرسك) التي تنتمي للعالم الثاني، في حين لا تزال تونس دولة من دول العالم الثالث، وربما أكثر لو كان هناك درجة أخرى، لا سيما في الوسط والجنوب. فهذه الصنعة لا تزال منتشرة في ألمانيا، وما أدراك ما ألمانيا؟ وتستخدم العربات التي تجرها الخيول (وبالتالي الحفاظ على صناعة السروج) في تنشيط السياحة بوسط برلين وفيينا وبودابست، وضواحي سراييفو، في حين كان القضاء على الصناعات التقليدية من لوازم الحداثة في تونس؟! العم خليفة بلخيرية أكد لـ«الشرق الأوسط» أنه يأتي يوميا للمحل، ليشرب الشاي ومن ثم العودة إلى البيت، وهذا ديدنه منذ ثلاث سنوات، «لم يعد هناك عمل، وأبنائي لم يرغبوا في تعلم هذه الصنعة التي كانت تزدهر في الصيف وتقل كثيرا في الشتاء». وعلى الرغم من أن حرفة السروج وصناعة البرادع (جمع بردعة، وهي سرج كثيف يملأ بالتبن أو الصوف ويوضع على ظهور الحمير فتغطي نصف أجنابها) تورث في الغالب وتغلب على ألقاب أصحابها، البرادعي، والساعاتي، والدهان، والخياط، والحداد وغير ذلك، فإن العم خليفة تعلم الحرفة من شقيقه الأكبر وعمره 20 سنة كما يقول، وبالتالي فهو آخر شخص في الأسرة يمتهن صناعة السروج والبرادع.

لم يبق للعم بلخيرية من الصنعة سوى الذكرى، وهي صفة جميع كبار السن دون استثناء، فعندما يتوقف الساعد ويكل، ويهن العظم، ويشتعل الرأس شيبا، ينطلق اللسان بما حفظته الذاكرة وعلق في الأذهان، «خمسينات القرن الماضي كانت العصر الذهبي لصناعة السروج والبرادع، وما يتعلق بلوازم الحرث والنقل بالوسائل التقليدية»، يأخذ الرجل نفسا عميقا ويواصل: «كنا نبيع في اليوم أكثر من 10 برادع، وأكثر من 10 وسائد للحرث (توضع الوسائد في رقبة الحصان أو البغل وتربط بالمحراث)، وكان الفلاحون والتجار يشترون منا بأعداد كبيرة، كانت الدواب متوفرة، فهي من وسائل النقل والحرث والتجارة، ولذلك كانت هناك فنادق (إسطبلات) للحيوانات في كل مدينة، تبقى الحيوانات في الدور الأرضي، كما هو حال مستودعات السيارات، ويجلس أصحابها وينامون في الدور العلوي».

كان لكل مدينة بلدات فلاحية محيطة بها، يفد منها الفلاحون فيثرون الأسواق ببضائعهم، ويتزودون بحاجياتهم منها، ومن ذلك شراء ما يحتاجونه من سوق البرادعية، الذي كان يضم 24 محلا، لم يبق منها شيء اليوم، «جميع الصنايعية كانوا في بحبوحة من العيش، تزوجوا وبنوا المنازل وجمعوا الثروات»، وكان ما يجمعه الحرفيون في الصيف كافيا لتعويض النقص الحاصل في الشتاء، «كنا قادرين على تدبير أمورنا في الشتاء بما ندخره من عائدات الصيف».

لم تكن عملية الادخار خاصة بجمع المال، بل تكشف طريقة أخرى لم تعد قائمة، وهي ادخار المواد الغذائية بعد صناعتها محليا، ومنها المعجنات والفلفل والطماطم المجففة، «كنا نصنع الكسكسي والمحمص والطماطم، كنا نقطعها إلى شرائح ونملحها ونضعها في الشمس فترة زمنية، ثم ندخرها للشتاء، حيث لم تكن هناك الطماطم المعلبة الموجودة حاليا في الأسواق، والممزوجة أحيانا بلحم الفئران»، وقصة لحم الفئران في الطماطم وغيرها من المواد المعلبة معروفة لدى عمال المصانع، فأحيانا ينفلت فأر من حوض غسيل الفواكه أو الخضار، ليقع بين فكي الماكينة ويسمع العمال صريره، حتى إن بعضهم لا يأكل المعلبات أبدا.

ترك العم بلخيرية الحديث عن المعلبات ليحدثنا عن طعام السابقين، الذي لم يعد موجودا كما كان، «كسكسي القمح، والملثوث، وخبز الشعير، والمحمص والبركوكش والبسيسة (السويق) في الصباح».

ومن جملة ما كان السراجون والبرادعية يصنعونه، ركاب الخيول، والغرائر، والوسادات الخاصة بالخيول، والأخرى الخاصة بالبغال، وكذلك الوسائد الخاصة بالجمال، وتوضع في رقبة الماشية عند الحرث أو جر العربات.

وينفي العم خليفة أن تكون السرعة بديلا عن الجودة: «صحيح أننا في عصر السرعة والجرارات أسرع من الخيول في عملية حرث الأرض، ولكنها ليست الأفضل في الأرض المزروعة بالأشجار، فهي تترك مساحات بور بينها، لا يمكن سدها إلا باستعمال المحراث التقليدي».

لم يكن لدى العم بلخيرية أدوات للعمل، ولا ما يعمله، ولذلك سألته «الشرق الأوسط» عن سر بقائه في المحل، فقال: «آتي يوميا إلى هنا لأشرب كوبا من الشاي في المكان الذي قضيت فيه زهرة شبابي وجل عمري، وهنا أتذكر كل زملائي، فقد ماتوا جميعا، ولم يبق من أهل سوق البرادعية سواي».