آخر محلات إعداد الزيتون بالطريقة التقليدية في فاس لا يزال صامدا

يحظى بسمعة طيبة رائجة في معظم المدن المغربية

الحاج غزال يلبي طلبات الزبائن (تصوير: أحمد العلوي المراني)
TT

يعتبر الزيتون الشيء الأكثر حضورا على المائدة المغربية، حيث إنه لا يُستغنى عنه في جميع الوجبات اليومية، لذا تفنن باعة الزيتون على مر العصور في تحضيره ليتناسب مع جميع الوجبات والأكلات وفي جميع الأوقات.

ليس سهلا معرفة الزيتون الجيد والتأكد من أن تحضيره تم بالطريقة التقليدية، إذ تعرض محلات بيع الزيتون في فاس أصنافا كثيرة لكنها متشابهة وضعت بعناية وبطريقة تجذب الزبائن، لكن الذواقة يعرفون الفارق في الأنواع، خاصة تلك التي تصنع بالطرق التقليدية والطبيعية من دون استعمال مواد كيماوية. كما يعرفون أن محلا واحدا فقط في هذه المدينة العريقة هو الذي ظل يحافظ على الطريقة التقليدية في تحضير الزيتون، وهو محل «الحاج ميلود غزال»، كما يعرف في فاس.

لقد دأبت فاس على المحافظة على كل ما هو تاريخي وطبيعي وتقليدي. وفي أحد أزقتها الضيقة في المدينة العتيقة محل الحاج ميلود غزال، وهو أمين تجار الزيتون في المدينة. ويعد هذا المحل واحدا من أقدم محلات بيع الزيتون في المغرب، فقد ورثه الحاج غزال عن والده قبل 56 سنة.

في هذا الوقت من كل سنة يعيد الحاج غزال ترتيب محله بتفريغ الزيتون الذي أعد في العام الماضي في قنينات كبيرة شفافة، رصت بعناية داخل المحل، ومنحته مظهرا خاصا وجذابا، ثم يقوم بملئها بكميات جديدة من الزيتون وبمواد أخرى، في حين تعرض الكميات القديمة للبيع بعدما تكون قد نضجت بما فيه الكفاية وأصبحت صالحة للأكل.

ويحظى محل الحاج غزال - كما يلقب - بسمعة طيبة رائجة في معظم المدن المغربية، ويشتهر في فاس وخارجها بجودة تحضيره لجميع أنواع الزيتون، ولذا تستعين به الأسر في المناسبات والحفلات.

يثير المحل الانتباه بطريقة ترتيبه المتقنة، وكذا بوجود جميع أنواع الزيتون المعروضة فيه. في حين تكدست بداخله قنينات كبيرة من الزيتون بمختلف أنواعه، إضافة إلى الخضراوات المخللة. وحقا توجد هنا أيضا جميع أنواع الخضراوات مرتبة بطريقة جذابة في قنينات مختلفة الحجم، ويشمل ذلك البطاطس والفلفل والباذنجان والبصل والجزر والخيار واللفت والذرة وغيرها من أنواع الخضراوات. وبهذه التشكيلة الجميلة تضيف ألوانها العديدة شكلا جميلا وأنيقا على محل يتصف أصلا بالنظافة، ولقد غدا متميزا واستثنائيا وسط محلات الزيتون التي تنتشر في أزقة فاس القديمة.

يقول الحاج غزال إن «أفضل أنواع الزيتون المعروفة في فاس يُسمى (مسلالة)، وهذا النوع يتميز بمذاق خاص جدا وأبدع أهل فاس في طريقة تحضيره. ثم إنه مشهور جدا لكنه مختلف عن الزيتون العادي بأنه ينمو في شجرة مختلفة عن شجرة الزيتون العادية، وهذه الشجرة أوراقها بيضاء تميل إلى اللون الرمادي، وثمرات الزيتون التي تنتجها تكون أكبر حجما من غيره». ويتابع «ويمكن استخراج كمية قليلة من زيت الزيتون من زيتون (مسلالة)، إذ تنتج الشجرة العادية 18 لترا من الزيت، في حين لا يتعدى إنتاج شجرة (مسلالة) ست لترات فقط، لذلك سعره مرتفع لكن مذاقه أحلى مقارنة مع الزيتون العادي».

ويشير الحاج غزال إلى أن تاريخ شجرة «مسلالة» يعود إلى خمسة قرون خلت «ويكتسي زيتون (مسلالة) أهمية كبيرة على المائدة، حيث يؤكل إما متبلا بالثوم والمقدونس (البقدونس) والحامض، أو بالطماطم والبصل والفلفل، أو بالزعتر.. وفي هذه الحالة يقدم دائما مع الطبق الرئيسي في الطعام خاصة (الطاجين المغربي)، أو يحضر بالملح فقط.. وفي هذه الحالة يستعمل مع طبق الدجاج بالليمون بطريقة خاصة أو مع الخليع (وهو أكلة مغربية تقليدية تحضر من شرائح اللحم القديد وتحفظ في قنينات كبيرة مصنوعة من الطين). ويخلل الليمون كذلك بطريقة تقليدية، فهو يقسم إلى أربعة أجزاء ويضاف إليه الملح، ويحفظ في قنينات كبيرة من دون استعمال الماء، ويستعمل الليمون البلدي صغير الحجم والمضغوط من الجهة العليا، أما العادي فيحضر بالأسيد والماء والملح، وعادة ما يباع الليمون والزيتون معا».

بعد جني زيتون «مسلالة» وغسله يشقق ويوضع في براميل مياه كبيرة، ويجدد الماء مرة كل أسبوع، إلى أن يصبح طعم الزيتون مقبولا وتختفي مراراته، وتستغرق هذه العملية شهرا كاملا. بعد ذلك يحضر جزء منه بالملح فقط، والباقي يتبّل بطرق مختلفة. هذه الطريقة التقليدية بالنسبة لتحضير «مسلالة البلدية»، إلا أن هناك زيتونا من نوع «مسلالة» يأتي من إيطاليا ويحضر باستعمال الآسيد (الأحماض المركبة)، لكنه لا يصل إلى جودة الطريقة التقليدية في التحضير، حسبما يقول الحاج غزال.

ومما يذكر أن معظم أنواع الزيتون المغربي تأتي من مناطق كرسيف وزرهون وبني ملال وزاوية الشيخ وقلعة السراغنة، لكن زيتون «مسلالة» يوجد فقط في منطقة حوض سبو، حيث تقع مدينة فاس. ويقول الحاج غزال «في البداية تبدأ عملية عزل - أو فرز - الزيتون حسب النوع والشكل لتحضير كل نوع على حدة، إما بتخليله في الماء والملح، أو بطرق أخرى مثل الزيتون الأسود الذي يحضر عن طريق غسله ورشه بالملح ووضعه في أكياس كبيرة، ثم يُضغط ويُترك في الشمس. ويمكن أن يضاف إليه زيت الزيتون ويصبح شكله مضغوطا ومذاقه حلوا».

ويوضح الحاج غزال أن هذه هي «الطريقة التقليدية والطبيعية في تحضير الزيتون الأسود، في حين أن الزيتون الذي يكون أملس الشكل، ويسمى (الكريس)، هو في حقيقة الأمر زيتون أبيض اللون لكنه يصبغ باللون الأسود، ويخلل بالآسيد، ويكون صلبا لكنه غير صحي».

بقي أن نشير إلى أن محل الحاج غزال يعد اليوم آخر المحلات التي تبيع الزيتون المحضر بالطريقة اليدوية، ويوجد منزل بالقرب من المحل تعد فيه كميات كبيرة ومتنوعة تكفي للمحل، وكذلك الطلبات الأخرى مثل الحفلات والمناسبات، ولتزويد المتاجر الكبرى التي يتعامل معها بالكميات المطلوبة. ويقول غزال إن «المدينة القديمة كانت تعج بالكثير من المحلات، لكن أصحابها رحلوا وورثها الأبناء الذين يعتمدون فقط على شراء الزيتون جاهزا، وتخلوا عن الطريقة التقليدية في تحضيره».