نحت المرمر.. صناعة حولت سكان قرية مصرية إلى فنانين فطريين

تشربوا أسرارها من أجدادهم الفراعنة ويطالبون بحماية الدولة لها

داخل ورشة يجري فيها تقطيع المرمر وصقله قبل أن يتحول إلى تحفة فنية
TT

لم يترك الفراعنة لأحفادهم من أبناء هذه القرية كل هذه المعابد والحضارة العظيمة الصامدة عبر آلاف السنين فحسب، بل تركوا لهم ميراثا آخر من الفن الفطري، لا يزال يجري في عروقهم ويمنحهم المقدرة على التشبث بالحياة، ويميزهم عن بقية البشر في تحولهم بفطرة الروح والفن إلى فنانين مهرة، ينحتون ويبدعون بأصابعهم المعروقة السمراء أشكالا لا تقل في جمالها عن إبداعات أجدادهم.

منذ الصغر، وكمهنة للعيش، يتشرب أبناء قرية القرنة الواقعة على البر الغربي لمحافظة الأقصر بجنوب مصر، روح الفن الفطري الفرعوني، ويجسدون جمالياته في منحوتات رائعة من قطع المرمر (الألباستر) المتنوعة الأشكال والأحجام، التي تغزو اليوم مختلف بلدان العالم.

وتحت مظلة هذا الفن تحول سكان القرنة بأكملها إلى فنانين بالفطرة، حتى أن الطفل الصغير فيهم يستحق لقب «فنان محترف» في ظاهرة قد تكون نادرة على مستوى العالم بأسره.

لقد اعتمد سكان القرنة في صناعتهم على خامة المرمر، أو «الألباستر»، وهو من أنواع الرخام المنتشرة في جبال الأقصر الغربي وأسوان والنوبة، وشكلوا منها أشكالا مختلفة مثل التماثيل والمزهريات والأواني، بالإضافة إلى استخدامه في تحت النوافير والأرضيات.

ويعتبر المرمر، واسمه العلمي، كبريتات الكالسيوم، خامة رخامية طبيعة من الجبس حبيباته دقيقة وذات شفافية عالية، ولونه أبيض صاف أو مخلط بشيء من اللون البني المحمر. والمرمر كغيره من أنواع الجبس يتكون من تبخر الرواسب البحرية، ويتمتع بدرجة عالية من الليونة، لكن ثمة خامات صخرية مثل البازلت والغرانيت تعد صعبة التشكيل نسبيا.

«الشرق الأوسط» قامت بجولة في القرنة، ورصدت مراحل تصنيع المرمر داخل الورش والمصانع القائمة فيها، والتقت هناك عددا من الصناع والتجار العاملين بهذه الصناعة.

الطيب على طليب (52 سنة) صانع مرمر، أو «معلم»، كما يطلق عليه في الورشة التي يعمل بها، يقول شارحا: «أعمل بهذه المهنة منذ 20 سنة.. بعد حصولي على دبلوم الصنايع، ولقد وجدت نفسي مغروسا في حرفة نحت المرمر التي كان والدي يعمل بها». ويضيف: «حبي لصناعة التماثيل والمزهريات يشعرني بأنني فنان مبدع.. وبينما أشكل قطع المرمر لا أعود أفكر في البحث عن مهنة أخرى، وهذا على الرغم من أن المهنة ما عادت مربحة هذه الأيام، فعائدها لا يكفي مؤونة اليوم».

ويواصل طليب كلامه «نحن فنانون مغمورون، نتعامل مع أحجار صلبة وعاصية على التطويع مثل البازلت والحجر الجيري، بعكس النحاتين الذين يتعامل معظمهم مع الصلصال الذي يسهل تشكيله، ومع هذا لا يشعر بنا أحد ولا يقدر قيمة فننا إلا قلة من الناس». ثم يقول «أكثر من 80 في المائة من سكان القرنة يعملون بهذه المهنة، وهذا بخلاف الموظفين الذين يمارسون حرفة المرمر بعد عودتهم من أعمالهم ووظائفهم العادية».

ويشير طليب إلى نقطة مهمة وهي أن الفراعنة كانوا يستخدمون المرمر في صنع أوان للأكل والشرب، وهو السر الذي ما زال مجهولا بالنسبة لنا حتى الآن، إذ لم يتمكن أي شخص حتى الآن من الاعتماد على خامة المرمر في طهو الطعام.

أما عن مراحل تصنيع هذه المادة، فيشرح طليب قائلا «تستغرق صناعة قطعة المرمر نحو 3 ساعات، وهي تمر بثلاث مراحل: الأولى مرحلة التقطيع، والثانية: مرحلة الخراطة، والثالثة والأخيرة: مرحلة التشطيب، والتي يجري فيها صقل وتلميع القطعة. وتتخلل المراحل الثلاث عمليات حفر ولف بالقماش، ووضع الخامة تحت الشمس لكي تخرج لنا بالشكل النهائي الذي نراها به. وأما عن المعدات والآلات التي نستخدمها في تصنيع المرمر فإنها كثيرة، أبرزها المبرد والمقضاب والأزميل والمنشار، بالإضافة إلى الفرن الذي يجري حرق أو شوي المنتج فيه».

وعن أسعار منحوتات المرمر، يقول عادل إسماعيل، وهو تاجر «لكل قطعة سعر خاص بها، فهناك منتجات يدوية وأخرى صناعية، ويحتل فيها اليدوي أعلى قائمة الأسعار.. إذ يصل السعر في بعض الحالات إلى 1000 يورو لقطع نادرة متميزة، نظرا لما تأخذه هذه القطع من وقت وجهد في تصنيعها. أما المنتجات العادية فتتراوح أسعارها ما بين 10 و50 يورو للقطعة».

ومن جانبه، يشير جابر إسماعيل البدري (36 سنة)، وهو صاحب مصنع ومعرض للمرمر، إلى أن «أي قطعة مرمر أو تماثيل في العالم كله منبعها من الأقصر. فالأقصر هي المصدر الرئيسي لهذه المنتجات». وعن خبرته الخاصة في هذا المضمار قال «أنا ورثت المهنة عن آبائي وأجدادي، لكنني اختلفت عنهم في أنني طورت المهنة وأنشأت مصنعا ومعرضا لترويج منتجاتي، بدلا من وقوعي تحت رحمة التجار الذين يفرضون أسعارهم وشروطهم على منتجاتي الذي تعبت في تشكيلها كثيرا».

وتحدث البدري عن أبرز المشكلات التي تواجه مهنة تصنيع المرمر، فقال «على رأسها أسعار الخامة التي بدأت ترتفع من دون توقف، بعدما كانت في ما مضى بلا مقابل، فهذه الأيام يرفع أصحاب المحاجر الأسعار بصورة مستمرة تقريبا من دون رقيب عليهم، ولا يقتصر ارتفاع الأسعار على المرمر الخام فقط، بل أصاب أيضا الخامات المساعدة مثل الغراء والقماش، ثم إن الوضع بعد الثورة أثر بشكل كبير على هذه الصناعة، وباتت الآلاف من الأسر مهددة بالتشرد، نظرا للشلل الذي أصاب القطاع السياحي، وهو ما اضطر الجميع هنا إلى البيع بالخسارة.. فقط لدفع مرتبات العاملين».

ويستطرد البدري «مثلما تعاني المنظومة السياحية من تخبط يتسبب لنا راهنا بمعاناة شديدة، فإننا نرى أنه إذا جرى تطوير الفكر السياحي ستنهض هذه المهنة من جديد وترتقي نحو الأفضل. وهنا أود أن أناشد الدولة ضرورة رعاية مهنة تصنيع المرمر، التي فتحت أبواب رزق أمام آلاف البيوت عن طريق تشغيل الشباب، فهناك بعض الأسر تعمل بالكامل في هذه المهنة بدءا من رب الأسرة حتى الأطفال الصغار». واختتم كلامه مضيفا «لقد أصبحنا دولة داخل الدولة.. لقد وفرنا عبئا كبيرا على الدولة، بتوفيرنا فرص عمل للآلاف من أبناء القرنة».