تونس: صناعة الغرابيل من الاستعمالات اليومية إلى ديكورات في المنازل الغربية

بعد تغير العادات الغذائية عند المواطنين

الطاهر بالرابح يضع اللمسات الأخيرة على غربال («الشرق الأوسط»)
TT

ثارت ثائرة سي الطاهر بالرابح، الحرفي الكبير في سوق الغرابلية (سابقا) بالعاصمة التونسية تونس عندما سمع كلمة صحافة. فهو لا يزال يشعر بالغبن، وربما الاستخفاف بشخصه، منذ نحو سنتين عندما قامت قناة «حنبعل» التونسية بتصوير السوق ووعدت الصنايعية بمبلغ 300 دينار، على حد قوله، لكل واحد، ولكنها «أعطت البعض ولم تعط البعض الآخر.. وأنا منهم». ولذا كاد يطردنا بكلمات حاول بها إنهاء الموضوع «الغربال اضمحل ولا يوجد سوى هذا المحل ومحل آخر فقط، القرداش اضمحل، البرداعية اضمحلت، تصوير المضارب للعرائس اضمحلت.. لم يعد قائما من الصناعات التقليدية سوى النحاس والزربية والمقروض».

كان الوقت صباحا عندما دخلنا سوق «الغرابلية» ولم يكن سي الطاهر بالرابح في مزاج للحديث معنا، لا سيما أنه كان لا يزال يرتب سلعته. وعندما عدنا إليه بعد نحو ساعة وجدناه كما لو كان شخصا آخر، بادرنا بمثل تونسي كان يردده الغرابلية، ومنهم والده الهادي بالرابح، «جلد العلوش آش يردوا غربال».. بمعنى أن هناك عملا مضنيا يسبق تحول جلد الخروف (العلوش) إلى غربال. وقد أثار انتباهنا عندما ذكر أثناء الحديث معه أن حرفته لا تحتاج سوى لـ10 أيام لتعلمها، قبل أن يستدرك «ولكن يحتاج المرء لفترة 10 أيام ليأخذ فكرة عنها، ولعام حتى يتقنها تماما».

وحول تطوير الحرفة لتواكب العصر فلا تطويها الذاكرة وتسقط في خطر الانقراض، قال: «الغربال في حد ذاته تحفة... دون أن يضاف إليه شيء»، مشيرا إلى أن سياحا يطلبون غرابيل صغيرة للاحتفاظ بها للذكرى. بيد أنه استحسن فكرة تغليف الغرابيل بالفضة أو النحاس عند استعمالها للزينة في المجالس. ودعا مهندسي الديكور للاستفادة من الصناعات التقليدية عند رسم ملامح الأماكن والقاعات والصالات وغيرها.

ثم قال: «تونس ليست هواء ولا شمسا ولا بحرا.. تونس ثقافة أولا.. فما العيب في وضع غربال أو غيره من القطع التقليدية في كل غرفة من غرف الفنادق وإلزام أصحاب الفنادق أو مبادرتهم هم بذلك؟».

وروى سي الطاهر لـ«الشرق الأوسط» قصته المهنية، وكيف يتحول جلد الخروف إلى غربال، فقال: «تعلمت الصنعة عن والدي الهادي بالرابح الذي تعلمها بدوره عن جدي علي بالرابح، رحمهما الله»، وتابع: «نأتي بجلد العلوش (الخروف) وننزع عنه الصوف، ثم نملحه لكي لا ينتن ولكي يتغلغل الملح في الجلد ويقوى الأخير بذلك، ثم نطوي الجلد. ومن ثم نضع الجلود مطوية بعضها فوق بعض على أرفف حتى لا تتسخ بالتراب وتبقى الجلود محافظة على نعومتها. ونترك الجلد في الملح لمدة 10 أو 15 يوما، وعند بدء العمل لا نبدأ بالجلود في أعلى الرف بل من أسفله، وذلك لأن الجلد عولج قبل غيره، كما أن الملح تغلغل فيه. وعندما نسحب الجلد السفلي ويكون فوقه أحيانا بين 10 جلود و15 جلدا نضعه في سطل من ماء الآبار، وليس أي ماء». واستطرد: «بعد غسل الجلد يقع تمطيطه من خلال شد أطرافه إلى حائط بمسامير من الخشب، وبعد يوم أو يومين نقصه في شكل أحزمة، ثم في خيوط رقيقة توافق ما يصنع من مأكولات شعبية في تونس. فهناك خيوط لغربال الدقيق الذي ينقسم إلى قسمين: غربال أول باب، وغربال ثاني باب، وخيوط لغربال الطلاع (بتشديد اللام ونصبها) ولغربال الكسكسي ولغربال المحمص وآخر لكسكسي غليظ يسمى في تون (البركوكش)، وهناك أيضا غربال الشعير الذي يعالج به دقيق الشعير. ومن أسماء الغربال في تونس حسب التخصصات (المنفضة) (من فعل نفض) و(الساقاط) (من فعل تساقط)».

ينسج الغربال بإتقان شديد، بعد برم الخيط ليصبح رقيقا وقويا في آن، وبعد برمه يلف (في اللهجة التونسية «يكبب») بشكل كرة، ثم يدخل الخيط في عملية النسج بالطريقة التقليدية المتعارف عليها، وهي عملية يدوية تستغرق وقتا طويلا نسبيا، وتستخدم فيها تقنيات بسيطة لكنها دقيقة ومحكمة. وعندما يتم نسج الغربال، تقع عملية شده بقوة إلى دائرة خشبية، وإحداث دائرة أفقية، وخياطتها داخل الغربال تكون من الجلد حتى لا ينهار قعر الغربال بعد اكتماله. لذلك يرى أرباب الصنعة أن سعر الغربال يظل زهيدا مهما بلغ. وحسب سي الطاهر «هذا الغربال لو وصل سعره 100 دينار (50 يورو) يظل رخيصا. لأنه لا يمكن صناعة غربال في يوم واحد، فشراء جلد ومن ثم نزع صوفه وتمليحه ووضعه في الماء وتمطيطه وتشميسه وقصه ونسجه أمور تحتاج وقتا. ولكن اليوم يبلغ سعر الغربال 20 أو 25 دينارا تونسيا (12.5 يورو) وهذا مبلغ زهيد».

من ناحية أخرى، تغير العادات الغذائية للتونسيين، كما يقول الباحث في علم الاجتماع عامر الرمضاني «أثر على عمل (الغرابلية) فـ(التعاطي مع القمح والشعير ما عاد كما كان في الماضي، ولم تعد هناك مطامير للقمح والشعير، أو بيت المؤنة أو باللهجة التونسية (بيت العولة) التي توضع فيها كميات القمح والشعير التي تخضع لعملية طويلة من الزرع إلى الحصاد إلى البيدر، ومن ثم إلى السوق، وتترك كميات تقدر بعدة أكياس للغذاء تكفي للعام التالي. وهي من ثم تخضع لعملية الغسيل بالماء والتعرض للشمس، ثم تنقى من الحصى وتنقل بعد ذلك لترحى سواء في البيت أو باستخدام آلة الرحى الكبيرة، وبعد ذلك تخضع الكميات المرحاة إلى الغربلة والتصنيع سواء كخبز أو غير ذلك من الأطعمة».

ويعلق الرمضاني «اليوم أخذت مكان كل هذا أدراج في المطبخ توضع فيها أكياس الخبز والمعكرونة والسباغيتي وأنواع المعجنات الأخرى والكسكسي المعد في مصانع خاصة.. وما شابه».

وعودة لصناعة الغربال التي يؤكد الصنايعية ومنهم الطاهر بالرابح أنها لا يمكن أن تكون سوى من جلد الخروف، قائلا: «لا يمكن صناعة غربال بغير جلد الخروف، نعم هناك غرابيل من الحديد أو البلاستيك وغير ذلك لكنها لا ترقى لجودة الجلد.. ثم إن غربال الجلد يمكن أن يعمر 50 سنة، وليست له انعكاسات سلبية أو صحية، بينما الغرابيل المصنوعة من الحديد تتعرض للصدأ، والتي من البلاستيك يعرف الجميع أن الأطباء ينصحون بعدم استخدام البلاستيك كآنية ولا سيما في عملية التغذية».

ولكن «الغرابلية» لا يصنعون الغربال فحسب، بل يصنعون أيضا «الدف» و«الدربكة» - أو ما يشبهها في تونس وتعرف باسم «الدربوكة» - و«التار» و«الطبل» و«البندير»، ولكن لا يستخدم جلد الخروف في صنع هذه الآلات بل جلد الماعز «لأن جلد الماعز - كما يشرح الطاهر - أقوى ويتحمل الضرب باليد وبالعصي، وفي المقابل لا يمكن صناعة الغربال من جلد الماعز لأنه لا يقبل البرم (أي اللف)».