«السفناج» مهنة عريقة في المغرب العربي في طريقها للاندثار

في الجزائر هو «التونسي» وفي المغرب يعتبر من أبرز شخصيات الأحياء العتيقة

«سفناج» يعمل على قلي «الإسفنج» (تصوير: أحمد العلوي المراني)
TT

ظلت حرفة «السفناج» ولمدة عقود من المهن الأساسية في الأحياء العتيقة في معظم المدن المغربية، لكن هذه المهنة الآن في طريقها إلى الاندثار، لأسباب متباينة.

العلاقة الوحيدة بين «الإسفنج» أو اللقيمات أو الفطائر المقلية، بباقي مسميات «الإسفنج» (النباتي والحيواني والصناعي) هو كثرة الثقوب. معرفة الناس بالفطائر المقلية، يعود إلى عقود طويلة مضت، ويقال إنها اكتشفت بالصدفة، نتيجة سقوط قطعة عجين في مقلاة زيت ساخن، في حين يقول البعض إنها ظهرت في أوروبا ومنها انتشرت، فاتخذت لها أشكالا ومسميات مختلفة. وشهدت فرنسا في القرن الثالث عشر انتشار أنواع من هذه الفطائر، على شكل قطع صغيرة. ولم تظهر الفطائر المقلية الممزوجة بالسكر إلا في القرن الثامن عشر ميلادي.

اعتنى الأندلسيون بالطبخ والتفنن فيه، وقد أبدعوا فيه أشكالا وألوانا. وازدهر عندهم «الإسفنج» بنفس المسميات وطريقة الإعداد، وهي الطريقة نفسها التي ما زالت معروفة في المغرب ضمن ما انتقل إلى المغرب من فنون الطبخ والأكل الأندلسي الغني والمتنوع. وإذا كان من المؤكد أن أصل «الإسفنج» بالمغرب هو الأندلس، فإنه من غير المؤكد أن يكون قد جاء مع النازحين من الأندلس بعد سقوط الدولة هناك في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وفي هذا الصدد، يقول الباحث المغربي إبراهيم حركات في كتابه «الحياة الاجتماعية في عصر بني مرين» إن «الإسفنج» كان معروفا في عصر بني مرين بل قبل ذلك بكثير. فقد تحدث مؤلف «زهرة الآس» عن وجود باعة الإسفنج قبل بني مرين. هذا إضافة إلى أن معظم باعة «الإسفنج» لا ينحدرون من أصول أندلسية، على عكس باقي الحرف الوافدة من الأندلس، بل أغلبهم من الأمازيغيين. ومن المفارقات أن مناطق القبائل الأمازيغية لا تنتشر فيها حرفة «الإسفنج»، وكثيرون منهم لا يعرفونه.

انتشرت حرفة «السفناج» في دول المغربي العربي الثلاث، أي المغرب وتونس والجزائر. وكان يطلق على صانع وبائع الإسفنج في الجزائر «التونسي»، وتدل هذه التسمية على أن معظم باعة الإسفنج من التونسيين، وهو ما يرجح أن تكون هذه الحرفة دخلت إلى الجزائر من تونس. وعرف عن الشاعر التونسي الراحل منور صمادح أنه مارس عدة حرف، من بينها حرفة بائع الفطائر، لذلك قال عن الصحف، في مقدمة ديوانه «صراع» إنها «حاوية أدب وفطائر»، في إشارة إلى أن الفطائر كانت تلف في بقايا الصحف.

وارتبط «الإسفنج» في أذهان المغاربة باعتباره أكلة لذيذة يتناولونها عادة في الصباح أو في العصر، وتوجد بكثرة في الأحياء القديمة وأزقة المدن العتيقة، وهي ترتبط أيضا بالشاي الأخضر المنعنع. وفي كثير من الأحياء يعتبر حانوت صاحب الإسفنج والفرن البلدي الحمام التقليدي من المرافق الأساسية في أي حي، في حين يعد «السفناج» أبرز شخصيات الحي لارتباطه بالجميع وكل صباح، ويعرف سكان الأحياء أصحاب المهن الثلاث جيدا.

عادة ما تكون أرضية دكان السفناج مرتفعة عن مستوى الأرض بأزيد من متر، حيث يجلس «السفناج» متربعا أمام مقلاته الكبيرة، على مستوى أعلى بقليل من زبنائه الملتفين حول باب دكانه في نصف حلقة؛ فيتمكن بذلك من رؤيتهم جميعا، حيث يراه الزبائن. ومن هذا الموقع، كل زبون يناديه برفع يده ليذكره بدوره أو بطلبه الخاص، من حيث حجم الإسفنج أو نوعها. ومن كثرة ما كانت ترفع الأيدي بهذه الطريقة، أطلق البعض على «السفناج» لقب هتلر.

مع طلوع الفجر، يبدأ باعة الإسفنج فتح محلاتهم. أما عملهم، فيبدأ عند منتصف الليل بإعداد العجين، الذي يحتوي على الدقيق والملح والخميرة. ومن العادات التي عرفت بها هذه الحرفة ما كان يسمى «عباسية السفنج»، حيث كان السفناج يقدم الإسفنجات الأولى بالمجان، وخاصة للطلبة والفقراء. أما أنواع «الإسفنج» الذي كان يعده، فهناك الإسفنج العادي، الذي يمكن أن يزيد في حجمه أو ينقص حسب طلب الزبون، وهناك «السفنجة المطفية» وهي الإسفنجة التي يدقها «السفناج» بيده بعد أن تنضج ثم يعيدها للقلي ثانية، فيتقلص بذلك العجين النيئ داخلها، وهناك أيضا «السفنجة المطفية بالبيض»، وهي سفنجة تدق كذلك بعد طهيها وتضاف إليها بيضة ثم يعاد طهيها.

وعادة ما يأخذ السفناج من العجين المكوم في إناء بجانبه، قطعة يدلكها ويكورها بين راحة يديه، ثم يضغط عليها بقبضة يده اليمنى حتى يخرج جزء كروي منها من أعلى قبضته، فينثره باليد اليسرى ويصنع منه بخفة عجيبة دائرة مخرومة يلقي بها في مقلاة الزيت الساخن، ويكرر العملية إلى أن يأتي بالكامل على العجين الذي بيده أو تمتلئ المقلاة. وعندما ينضج الوجه السفلي للإسفنجات، يقلبها من الوجه الآخر بقضيب حديدي يسمى «المخطاف»، حيث يخطفها خطفا من المقلاة عندما تحمر من الوجهين وتنتفخ ليلقي بها في إناء آخر، ويقوم مساعد السفناج بوزن الإسفنج للزبناء في الميزان، ثم يرصها، على شكل عقد كبير، في شريط من الدوم يسمى «الشرك» حتى يتمكن الزبون من حملها بأحد أصابعه دون أن تلامس ملابسه. وعلى الرغم من أن هذه الحرفة التقليدية التي لها تاريخ عريق أوشكت على الاندثار، فإن هناك في المقابل إقبالا متزايدا على وصفات إعداد الإسفنج، خاصة عبر الإنترنت.