صرافة مكة.. من الأزقة الضيقة إلى مؤسسات نقدية دولية

تاريخ اختلط بـ«الفرانسة» و«الروبية»

مطالبات بتحويل مكة عاصمة للصرافة الإسلامية («الشرق الأوسط»)
TT

زقاق الصاغة والسوق الصغير والقشاشية، مناطق في مكة المكرمة تحولت إلى مواقع شهدت انطلاقة مهنة الصرافة قبل نحو ستين سنة أو أكثر، داخل محال صغيرة، كانت تحيط بالمسجد الحرام، وينتظر فيها الصرافون قدوم الزوار من المعتمرين والحجاج لتحويل عملاتهم إلى الريال السعودي.

مهنة الصرافة في ذاك الوقت لم تكن تتطلب مهارات معينة، أو علما يدرس، كغيرها من المهن الأخرى التي تحتاج إلى علم أو ممارسة حتى الإتقان، ولا سيما أن كل ما كان يتطلب لها مبلغ من المال لكي يبدأ الصراف معه عمله في تبديل العملة الأجنبية بالمحلية، ومن ثم صرفها من قبل مؤسسة النقد بفروقات قليلة.

الكثير من رجال الأعمال الكبار في المملكة العربية السعودية كانت انطلاقتهم الحقيقة في عالم المال والتجار من بوابة الصرافة، ولعل بين أبرزهم وأشهرهم الشيخ سليمان الراجحي، المتوفى قبل بضعة أشهر، الذي على الرغم من امتلاكه إحدى أكبر المؤسسات المصرفية في العالم، كان حتى قبل أن يسلم الروح إلى بارئها يفتخر بأنه بدأ حياته التجارية من خلال صرف العملات. وإلى جانب اسم الراجحي، حققت أسماء أخرى نجاحا كبيرا في هذا المضمار، مثل الكعكي والعمودي والملطاني وبازيد وغيرهم.

ولأن العملات الورقية ما كانت معروفة في الماضي، اقتصرت الصرافة في بداية عهدها على تبديل العملات المعدنية فقط، ومن أشهرها عملة «الفرانسة» التي كانت تُتداول في أغلب دول العالم، إضافة إلى «الروبية» الهندية. واستمر التداول بهذه العملات المعدنية ردحا من الزمن إلى أن دخلت العملة الورقية في عملية الصرافة، إبان عهد الملك عبد العزيز مؤسس المملكة العربية السعودية، كما يشير بعض المؤرخين.

عادل ملطاني، شيخ الصرافين في مكة المكرمة، قال لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه: «لقد شهدت الصرافة اهتماما منقطع النظير في ظل حرص السعودية على أمور الحجاج والمعتمرين وتوفير جميع سبل الراحة لهم». وأشار إلى أن عددا محدودا من الأشخاص هم من كانوا يمتهنون الصرافة في بدايتها، و«ما كان يتجاوز عدد هؤلاء أصابع اليد الواحدة، ولكن في الوقت الحالي كثر عدد الصرافين بشكل أضفى على المهنة نوعا من قلة الانضباطية».

وأضاف: «بدأ كل من لديه مبلغ من المال في الدخول إلى عالم الصرافة، وهو ما أدى إلى حدوث بعض التجاوزات، الأمر الذي ألزم الجهات المسؤولة في الدولة بوضع أنظمة وقوانين لضبط المهنة والتحكم فيها».

ومما لا شك فيه أن عمليات التزوير أو التزييف، وضبطها خلال صرف العملات، بحاجة إلى «عين الصقر» لاكتشافها، وهذا لا يتوافر إلا من خلال الخبرة والممارسة، إلى جانب دخول أجهزة كشف التزييف، طبعا، بهدف المساعدة في اكتشاف العملات المزيفة.

وهنا، علق ملطاني قائلا: «في الماضي لم تكن هناك عمليات تزييف، باعتبار أن العملات كانت معدنية، غير أن دخول العملة الورقية كان من أسباب انتشار مثل تلك العمليات بشكل كبير».

إلا أنه استدرك قائلا: «ولكن خبرة الصراف في هذا الشأن تلعب دورا مهما في التفريق بين العملة المزيفة والأصلية، فالصراف المحنك بإمكانه التعرف على العملة المزيفة من مجرد النظر إليها أو ملامستها»، لافتا إلى أن أجهزة كشف تزييف العملات ساعدت كثيرا في عمليات الضبط، خاصة أن التزييف بدوره تطور وغدا من الصعب اكتشافه في الوقت الحالي.

ويرى «شيخ الصرافين» في مكة المكرمة التنظيمات والاشتراطات الجديدة، التي اتبعتها مؤسسة النقد العربي السعودي لتصب في صالح مهنة الصرافة، «أن تطبيقها يصعب المهمة على الصرافين القدامى، خاصة أنها تشترط زيادة رأس المال إلى ما يقارب المليوني ريال».

وطالب «بضرورة تطبيق الاشتراطات على الصرافين الجدد، وذلك من منطلق معرفة مدى جديتهم في مزاولة هذه المهنة، في حين لا بد من اهتمام الصرافين القدامى ممن يمارسون مهنتهم منذ عقود طويلة من الزمن، إضافة إلى السماح لهم بفتح فروع جديدة لمحلاتهم».

وفي ما يتعلق بالمعضلات التي يواجهها الصرافون، ذكر ملطاني أنها تتمثل في امتناع مؤسسة النقد عن صرف العملات ذات الفئة الصغيرة من الريالات والخمسة والعشرة، مضيفا: «انتهت المؤسسة بمنع صرف هذه العملات الصغيرة، لتوجهنا إلى البنوك، التي بدورها امتنعت هي الأخرى عن صرفها لنا، وهو ما جعلنا نصرفها عن طريق المعارف والواسطات في هذه البنوك بعد جهد كبير».

ويوافق ملطاني الرأي عمر بازيد، رجل الأعمال السعودي وأحد الصرافين الكبار في مكة المكرمة، الذي يمارس هذه المهنة منذ نحو 50 سنة، إذ قال لنا: «نحن نطالب مؤسسة النقد بمعاودة صرف الفئات الصغيرة من العملة السعودية للصرافين، إذ إن تحويلنا إلى البنوك التي تمتنع عن صرفها لنا يجعلنا عاجزين عن تلبية طلبات العملاء». ولفت بازيد إلى أن أهالي مكة المكرمة يقصدون الصرافين للحصول على الفئات الصغيرة من العملة السعودية بهدف تخصيصها كمصروف يومي لأبنائهم في المدارس، غير أن هناك شحا كبيرا اليوم لدى محلات الصرافة نتيجة امتناع المؤسسة والبنوك عن صرفها لهم.

وواصل بازيد حديثه: «إن التنظيمات الجديدة ستحد من عشوائية محلات الصرافة غير المرخصة، ولقد اعتمدت مؤسسة النقد موقعا في الشبكة العنكبوتية يجري من خلاله تسجيل طلب التراخيص المطلوبة، وهذا من شأنه تأسيس انضباطية تحت مظلات رقابية تتابع خط سير مهنة الصرافة».

من جهته، نفى محمد عبد الرزاق محمد عطار، وهو مدير أحد البنوك في مكة المكرمة، وجود دعوات حول اقتصار عمليات الصرافة على البنوك، بهدف الحد من عشوائيات محلات الصرافة، موضحا أن «تصريح البنوك لمزاولة هذه المهنة لا يسمح لمحلات الصرافة ببيع وشراء العملات ما عدا خدمة التحويلات المتمثلة في شراء الدولار وبيعه فقط».