إسكافي يمارس مهنته في بيروت على صوت أم كلثوم

أبو علي يعمل في مهنة تصليح الأحذية منذ 40 سنة

«أبو علي» داخل محله في الأشرفية («الشرق الأوسط»)
TT

إذا مررت في منطقة الأشرفية، بشرق العاصمة اللبنانية، قرب مجمع «أ ب ث» التجاري بالتحديد، لا بد أن يلفتك صوت أم كلثوم الذي يسترعي سمعك من بعيد، فتتبعه لتكتشف أنه آت من محل تصليح أحذية لصاحبه حسين حسن مهدي، أو «أبو علي»، كما هو معروف في الحي. المحل يتميز عن غيره من المحلات المجاورة بأنه بُني في بداية القرن الماضي، ويتصدره باب خشبي أحمر اللون تعلوه قنطرة تشير إليك بأنه من الطراز القديم ذات الهندسة المعمارية اللبنانية التي راجت في تلك الحقبة. وما إن تدخله على درجة حجرية تجد نفسك في غرفة لا تتجاوز مساحتها 3 أمتار من نوع العقد. يعتبر أبو علي، الذي يلقب نفسه بـ«أبو الرواق» (أي سيد الهدوء)، أن الدنيا «لا تستحق أن تهز أعصابك من أجلها أو من أجل مشاكلها التي بالإمكان حلها دائما بالهدوء وطول البال».

لماذا يصلح الأحذية وهو يستمع إلى أغاني أم كلثوم؟ يرد أبو علي مبتسما: «لأنها بمثابة دوائي اليومي الذي لا أستطيع أن أفوته وإلا أُصبت بالكآبة والملل فأتوقف عن العمل».

ألف ليلة وليلة، وهذه ليلتي، والأطلال، ورباعيات الخيام، والحب كله، وأمل حياتي.. وغيرها من أغاني أم كلثوم المعروفة، بالإضافة إلى 37 أغنية أخرى جمعها أبو علي في 3 أسطوانات مدمجة داخل علبة حديدية يختار منها يوميا ما يناسب مزاجه، ويلائم ما يخطر على باله أن يسمعه من الثامنة صباحا حتى الرابعة بعد الظهر، وهو دوام العمل الذي فرضه على نفسه منذ بداياته في ممارسة هذه المهنة، أي منذ 40 سنة حتى اليوم.

ولا يخفض أبو علي صوت ماكينة التسجيل الذي ينساب إلى آذان المارة إلا في حالات نادرة، أي عندما يقصده زبون جديد، أو عندما تريد إحدى السيدات أن تشكو من هفوة ما ارتكبها في مهمته. ويقول: «أحيانا أعرف مسبقا أن هذه الزبونة لها طلبات كثيرة زيادة على اللزوم، أو تحب الثرثرة والشكاوى، فأزيد من قوة الصوت حتى لا تتمادى في الحديث».

أما أجمل ساعات العمل، حسب رأيه، فهي تلك التي تمتد من الظهر حتى الثانية من بعد الظهر؛ إذ يزدحم الشارع الذي يقع فيه محل أبو علي بالسيارات والمارة، وتختلط رائحة الفلافل المنبعثة من محل فريحة المجاور مع رائحة الدجاج المشوي من مطعم ملك الطاووق، المقابل. وفي هذه الأثناء يكون هو منهمكا في تصليح الأحذية على «رواقة» بصحبة صوت أم كلثوم، وكأنه في عزلة عن الآخرين على الرغم من كل الضجيج المحيط به.

ويروي أبو علي، في حديث طويل لـ«الشرق الأوسط»، قطعه بين الفينة والفينة دخول أحد الزبائن مطالبا بحذائه الذي سلمه إياه منذ ساعات قليلة لتصليحه، أنه يحب عمله الذي بدأه منذ كان في الثامنة عشرة من عمره عندما كان يحل مكان أخيه - الإسكافي أيضا - أثناء اضطراره للغياب عن محله، الذي كان يقع في منطقة الشياح (جنوب بيروت). ويتابع: «مع الوقت تعلقت بهذه المهنة وقررت أن أمارسها لتكون مصدر رزقي».

ولكن ماذا كان يفضل أن يعمل أبو علي لو لم يمتهن تصليح الأحذية؟ يصمت قليلا، ويقول: «لا أحلام لديَّ.. أحب أن أعمل في أي مجال حر لا يتحكم بي أحد».

ويتذكر أبو علي الأيام الغابرة التي أمضاها في هذه المهنة، فيصفها بأنها «كانت أجمل من الحاضر.. فيها الكثير من البركة والمحبة، أما اليوم فصارت أيامها ثقيلة ومرهقة ولا تحمل سوى الهموم والسعي فقط وراء المال، كذلك الزبائن في الماضي كانوا كما يقول أهدأ وأسلس وطبيعيين، أما اليوم فقد تبدلوا وصاروا عصبيين يريدون شغلتهم بسرعة وبأقصر وقت ممكن».

بالنسبة للأسعار، يقول أبو علي: «إنها زادت على الماضي بخمسة أضعاف، فأهم (تصليحة) كانت لا تتجاوز قيمتها 5 آلاف ليرة لبنانية، أما اليوم فقد تصل إلى 20 دولارا، أي ما يوازي 30 ألف ليرة».. ووفق فلسفته الخاصة يقول إن المال «لا يسعد الإنسان»، مستشهدا بالمثل اللبناني القائل «يا آخذ القرد على ماله.. راح المال وبقي القرد على حاله». حسين مهدي، من جهة ثانية، يحرص على المحافظة على أدوات قديمة حملها معه من أخيه، أو وجدها في المحل نفسه الموجود فيه حاليا «الذي سبق أن مر عليه أكثر من إسكافي قبلي، أحدهم من آل حداد، وآخر أرمني، وثالث يوناني من عائلة ميرامو». وبين هذه الأدوات ماكينة درز من ماركة «سينغر»، وجذع شجرة عمره أكثر من 100 سنة يستعمله كسندان بعدما ثبت في وسطه لسانا حديديا يضع عليه الأحذية التي تحتاج للتصليح مثل تغيير «كعبيات» أو نعل أو إلصاق ما هو مقطوع أو منفصل عن الحذاء. وعن جودة البضاعة يقول أبو علي إنها تغيرت عن الماضي «إذ كانت (التصليحة) تسمح لصاحبها أن يستفيد منها لمدة طويلة، بينما اليوم بالكاد تبقى لأشهر قليلة».

أبو علي مقتنع بأن مهنة الإسكافي في طريقها إلى الزوال «بدليل أن منطقة الأشرفية التي يعد سكانها بالآلاف ليس فيها سوى إسكافيين أو ثلاثة، وأن بيروت بأكملها تفتقد الإسكافيين الشاطرين.. وقريبا سيضطر اللبناني إلى قطع مسافات طويلة لإيجاد إسكافي واحد يصلح له حذاءه، بعدما كان في الماضي يجد إسكافيا عند كل قارعة شارع».

من ناحية ثانية، يرى أبو علي أن عقل الإنسان هو «طريق خلاصه وليس أي شيء آخر، والتكنولوجيا مهما تطورت لن تستطيع أن تحل مكان الإنسان، خصوصا الإسكافي». ويتابع: «الاختراعات جميلة لكنها تبقى من دون قيمة إذا لم يوجد من يدير ماكيناتها».

عن أولاده يقول حسين مهدي: «إنهم أربعة يعملون في مجال التجارة، ولم يرغب أي منهم في إكمال مسيرتي». ويضيف: «كنت أفضل لو تعمقوا في دراساتهم ونالوا شهادات علمية عليا؛ لأن العلم وحده باستطاعته أن يحارب الفقر».

ثم يقول: «الشعور بالندم لا يراودني إلا عندما أفكر كيف تركت دراستي باكرا، لكنني أنصح شباب اليوم أن يكون الحب عنوانا لأي مهنة يختارونها، أو أي خطوة يقومون بها، لتأتي على المستوى المطلوب، ولكي لا يشعروا بالملل الذي هو آفة هذه الدنيا، حسب خبرتي».

في ختام اللقاء، قال: «أفضل الإسكافيين في لبنان، حسب رأيي، هم الذين جاءوا من بلدة بنت جبيل الجنوبية وسكنوا في منطقة النبعة القريبة من المناطق الأرمنية، التي طالما عرف أهلها بمهارتهم في الأعمال الحرفية، وهكذا تعلم منهم أبناء بنت جبيل أصول هذه المهنة وبرعوا فيها».