تونس: الجزارون في العيد.. يا لحم من يشتريك

فلسفة عيد الأضحى تكمن في إعلاء قيمة الحياة الإنسانية

الكل في تونس يقبلون على شراء الاغنام واللحم بمناسبة عيد الأضحى المبارك («الشرق الأوسط»)
TT

اليوم يوم عيد.. شعور ينتاب جميع التونسيين بمختلف شرائحهم الاجتماعية وأطيافهم السياسية والأيديولوجية. بيد أن هناك شريحة في المجتمع تتأثر بشكل مختلف نسبيا بالعيد. بحكم التصاقها اليومي بالخرفان واللحم وهي فئة الجزارين. إذ إن الناس ينقطعون عن شراء اللحم فترة تتراوح ما بين 15 و21 يوما، وهو ما يمثل قلقا لدى بعض الجزارين يحاولون التخلص منه باعتبار العيد منطلق إجازتهم السنوية، ولكن مع بعض الامتعاض وربما الغصة لما يجنونه من أرباح في هذا الميدان.

وقال أحد الجزارين ويدعى خميس الفطناسي لـ«الشرق الأوسط»: «يوم العيد أذهب للصلاة ثم أعود فأذبح الخروف وأسلخه وأقطع اللحم، بعضه للطبخ وبعضه للشواء، وبالطبع نترك الباقي في الثلاجة» وعما إذا كان يقوم بذبح وسلخ خرفان المضحين ممن لا يجيدون الذبح والسلخ أفاد بأنه كان يفعل ذلك قبل عدة سنوات عندما كان أعزب، ولكنه اليوم «صاحب عيال، ولا يمكنني تركهم ينتظرونني يوم العيد حتى الواحدة بعد الظهر» واستدرك «أذبح أضحية الوالد وأضحية أختي».

ويشتكي خميس من قلة الإقبال على شراء اللحم في الأيام التي تسبق عيد الأضحى، ما عدا اليوم الفاصل، حيث يقبل ضعاف الحال على شراء بعض الكيلوغرامات من اللحم. وعن الفترة التي يقضونها من دون عمل بعد العيد، ذكر أنها 15 يوما وتزيد أحيانا. ورغم الوجوم الذي يصل إلى حد الحزن فإنه يعزي نفسه بأن الفترة التي يقضيها من دون عمل في أعقاب العيد يعدها «إجازة سنوية».

ويشاطر الجزار رفيق السبري جاره الفطناسي «يوم العيد أذبح أضحيتي ثم أضاحي الأسرة ثم أضاحي الجيران المقربين»، وعن عدد الأسر التي يقوم بذبح أضاحيها كل يوم عيد، ذكر بأنه يذبح ويسلخ ويقطع لحوم ما بين 20 و25 خروفا كل عيد. وبخصوص الفترة التي تستغرقها عملية الذبح والسلخ، قال «بين 5 و10 دقائق على الأكثر» ونفى تلقيه أموالا مقابل ما يقوم به من ذبح وسلخ للأضاحي يوم العيد «أفعل ذلك لله، ولكن هناك من يجني ما بين 100 و200 دينار (الدينار نصف يورو تقريبا) يوم العيد من عمله هذا»، وحول الفترة التي سيظل فيها دكانه مغلقا بعد العيد، أوضح أن «المدة بين 15 و21 يوما ولكن هذه الفترة أستغلها سنويا لتنظيف الدكان وإعادة هيكلته ودهنه».

ولغلاء أسعار الخرفان في تونس التي تتراوح بين 250 و600 دينار، يجد ضعاف الحال أنفسهم مجبرين على شراء قسط من اللحم بعد العجز عن شراء خرفان العيد، وأفضل من يعرف مستوى الطاقة الشرائية لضعاف الحال هم الجزارون «البعض يشتري نصف خروف مع الأحشاء ويكلفه ذلك ما بين 70 و80 دينارا»، أما معدل ما يذبحه في اليوم الذي يليه العيد، فقد أشار إلى أنه يذبح نحو 10 خرفان.

ورغم تشكي بعض الجزارين من قلة الإقبال على شراء اللحم فإن بعض محلات بيع اللحم كانت فارغة مساء الجمعة بينما كانت بعض المحلات الأخرى تحتفظ بنحو نصف خروف في كل منها. كما لم يتوقف الطلب على اللحم المشوي، وعندما سألنا بعض الزبائن الذين كانوا قد أتوا على كل ما طلبوه من لحوم، حول ما إذا كان لديهم خرفان العيد، أجابوا بالإيجاب «نحن نأكل اللحم في جميع الأوقات، وهذا غير مرتبط بالعيد فحسب».

ويرى جزار يدعى توفيق أن خسائر الجزار الواحد من عطلة العيد لا تقل عن ألفي دينار(نحو 1000 يورو) وهو كغيره من الجزارين لا يعمل يوم العيد «يوم العيد أكون في البيت أذبح أضحيتي وأضاحي الأقرباء والجيران»، ويمضي قائلا «اليوم الذي يسبق العيد (السبت هذا الموسم) هو اليوم الذي يقبل فيه الفقراء أكثر من الأغنياء على شراء كميات كبيرة نسبيا من اللحم، وبعضهم يشتري قبله بيومين خشية انقطاع وافتقاد المواشي في اليوم الذي يسبق العيد»، وعن الكميات التي يشتريها الفقراء ذكر بأنها لا تزيد على 5 كيلوغرامات «2 كيلو للشواء و3 كيلوغرامات للطبخ وأحيانا يشتري بعضهم الأحشاء مع كمية اللحم المذكورة». وأحشاء الخروف مهمة في تونس، حيث تصنع منها أكلة لذيذة جدا تسمى «العصبان» وهي خليط من الأرز والكبد والكلى والبقدونس وبعضهم يضيف إليها البصل وأشياء أخرى ثم تلف بقطعة من الأحشاء وتخاط ثم تطبخ.

وكبعض الجزارين الآخرين، يستغل توفيق فترة إغلاق الدكان بعد العيد للتنظيف «العطلة السنوية للجزارين هي عيد الأضحى»، وفي حال بقيت لحوم في الدكان لم تبع وباغتها العيد، قال «نأخذ اللحوم للبيت وأكثرها الأحشاء والرؤوس»، وعن تأثير أسعار خرفان العيد على عمل الجزارين، اشتكى توفيق من ارتفاع الأسعار على الجزارين في العيد «لأن البعض يشتري خروفا صغير السن للشواء مع خروف العيد المعد للطبخ وهذا يرفع الأسعار بنسبة تتراوح بين 30 و50 في المائة».

وكعادة التونسيين في طلب المعرفة عن كل شيء، فإن الغاية من كل نسك أو شعيرة من شعائر الإسلام تظل مطلب التونسيين، مما دفع عالم جليل كابن عاشور لتأليف كتاب عن المقاصد الشرعية. وبما أن عيد الأضحى مرتبط في تونس والعالم بالفداء من أجل الإنسان، وليس التضحية بالإنسان من أجل إنسان آخر أو قوم آخرين أو الناس أجمعين «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا». إذ إنه كما يقول عبد الرحمن الدريدي «رمز لقيمة الحياة الإنسانية، لأن التضحية بالإنسان جرّت (بتشديد الراء) الويلات على العالم منذ أن تشكلت القبائل والدول التي تضحي ببعضها البعض من أجل حياتها هي، ومجد أجيالها هي فقط على حساب الآخرين، كما رأينا في الحروب الإمبريالية».

أو بتعبير أستاذ الفلسفة رضا العامري «هذا العيد الذي نضحي فيه بالخرفان من أجل أن يحيا الإنسان، ولا نضحي بالبشر من أجل أن يخلص الناس». ويتابع «لقد تحولت آيديولوجية التضحية بالبشر إلى عنصرية تضحي فيها شعوب بشعوب أخرى، ويضحي فيها المرء بأخيه من أجل أن ينجو هو». وأردف «العيد في الثقافة الإسلامية منعرج مهم في سير الثقافة الكونية نحو الغائية التي خلق من أجلها العالم والمتمركزة حول كرامة الإنسان، (ولقد كرمنا بني آدم)».