«الأبلق».. فن معماري جميل انطلق من دمشق في العصر المملوكي

أول نماذجه القصر الذي بناه الظاهر بيبرس على ضفاف نهر بردى

جامع السنجقدار التاريخي بني بفن الأبلق المعماري («الشرق الأوسط»)
TT

تشتهر المدن السورية منذ القدم بالأبنية الحجرية المتقنة، ولكن كان لكل من المدن السورية طابعها الخاص وحجارتها المميزة. ويلاحظ مثلا انتشار الحجر الأبيض المنحوت في أبنية مدن، مثل حلب وحماه، حيث تكثر فيها مقالع، مثل هذه الأحجار، بينما تطغى الأبنية المشيدة بالحجارة البركانية البازلتية الزرقاء والسوداء في مدن حمص، التي يطلق عليها لقب «أم الحجار السود»، ودرعا والسويداء في جنوب سوريا.

كذلك تخصص المعماريون السوريون وأبدعوا في تصميم وبناء الواجهات الفنية، ولقد اشتهرت في العاصمة دمشق نماذج الواجهات المختلفة، ومنها الرخامية والحجر المنحوت وغيرها، وما زالت الكثير من الأبنية القديمة التاريخية تحافظ على واجهاتها التراثية المبنية بفن زخرفي يعود للعصر المملوكي، ويطلق عليه «الأبلق»، الذي يقوم على استعمال حجارة من ألوان مختلفة. وحسب المؤرخين، فإن هذا الفن المعماري انطلق حقا من دمشق وانتشر لاحقا في غيرها من المدن، وكان أول بناء يشاد به هو «قصر الأبلق»، الذي بناه القائد المملوكي الظاهر بيبرس على ضفاف نهر بردى، مكان مباني التكية السليمانية حاليا، ومن ثم انتشر هذا النمط المعماري في الأبنية اللاحقة حتى أوائل القرن العشرين المنصرم ونهاية العصر العثماني، عندما بدأ دخول أنماط العمارة الأوروبية إلى المدن السورية.

مع وجود عشرات المباني الكبيرة والصغيرة في دمشق وباقي المدن السورية، التي ما زالت تحافظ على فن «الأبلق» في جدرانها، كان لا بد من وجود حرفيين سوريين يعملون في مجال ترميم واجهات المباني المنفذة بهذا الطراز. وعلى الرغم من تناقص عدد هؤلاء، ومنهم من توارث هذه المهنة أبا عن جد، ما زالت هناك مجموعة لا بأس بها من الحرفيين السوريين الشباب المتخصصين بالبناء بـ«الأبلق» اليدوي، ومنهم الشاب الثلاثيني أحمد حموي.

حموي، سألته «الشرق الأوسط» كيف بدأت علاقته مع هذه المهنة التراثية والمتعبة نسبيا، وأجاب: «في بداية حياتي المهنية عملت في مجال البناء والعمارة الحديثة. ولكن، قبل نحو خمس سنوات لاحظت أن بعض زملائي يتحولون للعمل في مجال ترميم الأبنية القديمة، وهي ظاهرة انتشرت خلال السنوات الأخيرة، وطالت كل مفردات هذه الأبنية في دمشق، ومنها الجدران المبنية بـ(الأبلق). وعندها قررت تعلم هذا النمط عن مهندس متخصص بالعمارة التراثية ولديه ورشة تعمل في هذا المجال. حقا، عملت مع الورشة وبإشرافه. وبصراحة أقول، إنه مع أن العمل في (الأبلق) مجهد ويحتاج لدقة شديدة وصبر كبير وأناة أكبر من العامل عندما يعد كل حجر وينسق موقعه بطريقة هندسية متقنة. فـ(الأبلق) عبارة عن تناوب الأحجار المختلفة اللون، بعضها فوق بعض أفقيا. فترى مثلا جدارا مبنيا بخط أفقي من الحجارة البيضاء، وتحته يمتد خط مبني بالحجارة السوداء أو الحمراء. وهكذا تتناوب الخطوط بشكل هندسي جمالي، فيأخذ المبنى منظرا جماليا نفتقده في العصر الحالي..». ويبتسم أحمد، وهو يشرح بأسلوب الناقد المعماري: «كما هو معروف، في العصر الحديث، فإن معظم الأبنية تصف صفا بشكل واحد من الحجر الأسمنتي أو غيره، وهذا بالتأكيد مريح للعامل وحتى للفنيين بعكس فن (الأبلق)».

ولكن هل هذه المهنة مربحة؟ يضحك أحمد: «مستورة والحمد لله، قد لا يكون مردودها جيدا، كما هو الحال في الأبنية الحديثة، خاصة أنها تحتاج لقيام مشاريع ترميم أبنية قديمة، ومن ثم البحث عن الأحجار التراثية لاستخدامها في الترميم، ولكنها ممتعة، وتشعرني بنوع من السعادة. أنا أعمل في بناء تاريخي أعيد له رونقه مع زملائي وبإشراف مهندسين ومتخصصين في الآثار. كما أنني أشعر بالاعتزاز عندما يُشار إلي على أنني واحد من عدد قليل من الحرفيين الذين لديهم تخصّص في عمل معماري تراثي. كما هو معروف هناك آلاف (المعمرجية)، ومنهم مَن يجلس في الساحات والأسواق.. ينتظر قدوم مهندس أو متعهد بناء ليشغلهم في مشروعه. وبالنسبة لي ولزملائي فإن المهندسين هم الذين يتصلون بنا، ويقصدوننا في منازلنا لنعمل معهم، وهذا ليس بالقليل».

أين هي الميزات الجمالية لفن «الأبلق»؟

يجيب عن هذا السؤال باحثون في علم الجمال والعمارة، موضحين أن تناوب اللونين الداكن والفاتح يخفف إلى حد ما من ثقل كتلته، لا بالوزن بل بالبصر، وهذه قاعدة معروفة علميا ونظريا, ولذلك جاءت فكرة البناء (الأبلق) كمطلب فني وليس كحاجة وظيفية. ولقد أوضح الباحث الراحل قتيبة الشهابي في كتابه «زخارف العمارة الإسلامية في دمشق» أن أفقية الخطوط تجعل تلك الكتلة تنساب عرضيا حيث يبدو البناء أقل ارتفاعا وأكثر عرضا، إضافة إلى تميزه عن الأبنية المجاورة أو المحيطة به.

من جهة ثانية، يؤكد محمد عيد الخربوطلي، الباحث السوري في مجال التراث، أن عمارة العهد المملوكي تميزت بالفن الزخرفي وتنوع أشكاله وتكويناته، فظهرت المداميك الحجرية ذات الألوان المتناوبة المعروفة بـ«الأبلق»، التي أطلقت كمصطلح لغوي عربي فصيح من كلمة «بلق»، التي تعني السواد والبياض في اللون. وكان أول ذكر له في شعر السموأل من القرن الخامس الميلادي عندما بنى له والده حصنا باللونين الأبيض والأسود شمال الجزيرة العربية. وتلاه قصر ابن وردان شرق مدينة حماه السورية في البادية. ولكن فيما بعد تغير هذا النمط مع المحافظة على الاسم، ولم يعد يعتمد على اللونين الأبيض والأسود فحسب، بل صار «الأبلق» تسمية تطلق على نسق في الصفوف الحجرية الأفقية حيث تتناوب الألوان التي باتت تضم، بجانب اللونين الأبيض والأسود، الأحمر والأصفر والترابي أو البني وغير ذلك.

وبعد بناء الظاهر بيبرس قصر «الأبلق» في دمشق، انطلق هذا الفن المعماري وانتشر نحو مدن سورية أخرى - يشرح الباحث خربوطلي - ولم يقتصر البناء بـ«الأبلق» على سوريا وحدها، إنما انتشر في مناطق أخرى، منها مصر، خاصة القاهرة، عاصمة دولة المماليك، وقد عرف في مصر باسم «الحجر المشهر».

ولقد توقف البناء بـ«الأبلق»، واندثر في نهاية العصر العثماني، ولكن ما زالت أبنيته القائمة شاهدا على جمالياته ومهارات بنائيه القدامى، ومنها خان أسعد باشا في سوق البزورية بدمشق القديمة، وجوامع قديمة كثيرة، منها الدقاق في حي الميدان والسنجقدار والمعلق وسنان باشار وغيرها، ومبان أخرى مثل المدارس، وأشهرها المدرسة الجقمقية، والحمامات كحمام التيروزي وغيرها.