«القلل القناوي».. تراث مصري أصيل يتحدّى الانقراض

صناعة الفخّار تتطلب مجهودا كبيرا.. ومنتجاتها تباع بأرخص الأسعار

عامل فخّار يصنع إحدى الأواني («الشرق الأوسط»)
TT

«مليحة قوي القلل القناوي.. رخيصة قوي القلل القناوي.. قرب حدانا وخد قلتين»..

هكذا شدا الفنان المصري سيد درويش، قبل ما يقرب من 80 سنة، «متغزّلا» بالقلل القناوية (القلل جمع قلّة، وهي وعاء من أنواع الجِرار الفخّارية) التي ظلت لسنين طويلة ركنا أساسيا في البيوت المصرية، وهي الآن تصارع انقلاب الزمن عليها، متحدّية الصناعات الحديثة لحفظ المياه لتظل على قيد الحياة.

بعد زمن طويل من الغناء للقلل القناوي، لم تعد هذه القلل اليوم تحظى بالمكانة نفسها كما في الماضي لدى معظم الناس، ولكن على الرغم من ذلك فإن «العم» عبد الرحيم حسنين، صانع الفخّار، يدافع عنها بكل قوة، قائلا «لن تستطيع المبرّدات ولا الثلاجات أن تهزّ عرش القلل القناوية، فهي ستظل الأفضل والأنقى صحيا، وستظل صامدة تقاوم الصناعات الحديثة»، ومضيفا «لن أعمل بأي مهنة أخرى غير الفخّار، فهي مهنتي التي ورثتها عن آبائي وأجدادي ولن أبحث عن غيرها حتى مماتي».

في الواقع، تعدّ صناعة الفخّار حرفة فرعونية قديمة لا يعلم أحد تاريخ نشأتها ووجودها بالتحديد، وهي حرفة تعتمد على الطبيعة المحيطة التي توفر مواد صناعة الفخّار، فالمادة الخام المستخدمة في هذه الصناعة منتشرة في الجبال المصرية بكثرة، وخاصة في جبال جنوب مصر. وتستخدم مادة الفخّار في صناعة أشكال وأنواع وأحجام مختلفة من الأواني أو الأوعية، مثل: الزير والجرّة والبكلة والقلّة والزهرية والفازة والمرقسية والطاجن والزعافة والأبريق وغيرها من الأوعية الأخرى التي يُبدع في صناعتها الحرفيون.

ولقد اشتهرت محافظة قنا، في صعيد مصر، بصناعة الفخّار دون غيرها من المحافظات. واليوم تعتبر المحافظة الوحيدة التي ما زالت تنشط بها صناعة الفواخير حتى الآن، وحيث توجد فيها قرى معينة اشتهرت بهذه الصناعة مثل قرى: الترامسة والطويرات والدير والمحروسة، بل إن هناك قرى وعائلات تسمّت بأسماء الفخرانية والفواخرية والبلاص والبلاليص.. نسبة إلى هذه الصناعة العريقة.

ولم يقتصر استخدام الفخّار في صنع الأواني والأوعية التي تستخدم في طهي الطعام أو حفظ الماء، بل قام أبناء المهنة بتطويرها واستخدامها في عدد من الأغراض الأخرى، مثل الزهريات الجميلة التي توضع فيها الأزهار البلدية، بالإضافة إلى البلاص - أي الفخّار - في بناء حوائط المنازل.

وفي قرية المحروسة (البلاص سابقا) في محافظة قنا، رصدت «الشرق الأوسط» عن قرب صناعة الفخار، والمثير أن القرية نفسها اشتق اسمها السابق من صناعة البلاص لشهرتها الواسعة في صناعة المنتجات الفخارية «البلاليص». وداخل «الفاخورة»، أو ورشة الصناعة، يحكي ضاحي بركات، صانع الفخّار المتمرس عن هذه الصناعة، فيقول «تبدأ صناعة الفخّار من بعد صلاة الفجر، حين نذهب إلى المحجر (الكولة) وهو موجود تحت سطح الجبل في مخاطرة لا يقوى عليها إلا أشخاص أقوياء القلب والجسد، لإحضار الحجر الطفلي المستخدم في صناعة الفخّار». ويضيف بركات «كنا قديما نأتي به على ظهور الجمال، أما الآن فقد تطور الوضع وبدأنا نستخدم شاحنات النقل لجلب الأحجار، ثم نباشر بتشوين (تخزين) الحجر بجوار مكان العمل المسمى بـ(الفاخورة)، ولاحقا توضع الأحجار في حوض كبير مليء بالماء، ثم نحضر الجاموس أو البقر لكي يدور داخل هذا الحوض ضاغطا على أحجار الفخّار (الطفلة) حتى تصبح مثل العجين»، ومن ثم تبدأ بعدها عملية تشكيل الطفلة على يد الصانع الماهر الذي يجيد تشكيل هذه العجينة.

ومن على آلته العتيقة لتشكيل الفخّار، يلتقط صانع الفخّار «المعلم» دياب أطراف الحديث، فيقول وكل تركيزه منصب على «الراحونة» - أي آلة تشكيل خام الفخّار - «تبدأ مهمتي بعد اكتمال نضج الحجر، فأنا أتسلّم عجين الطفلة من العامل الذي يحملها من الحوض، وأباشر بتشكيلها على الحجر ما بين بكلة أو جرة أو زير أو قلة أو مرقسية أو طاجن.. إلخ، حسب الطلب الذي نعمل به، ثم أسلّمها إلى العامل لكي يخرجها خارج «الفاخورة» لتجفّ تحت أشعة الشمس الحارقة.

ثم يروي عبد الباسط حفني، أحد صنّاع الفخّار، كيف تبدأ المرحلة التالية، وهي حرق أو شوي منتجات الفخّار. ففي هذا المرحلة «يضع العمال منتجات الفخّار داخل (المسلقة) - أو (المحرقة) - وهي عبارة عن مبنى من الطوب اللبني أشبه ما يكون بالفرن، مكون من طابقين: الأعلى توضع فيه منتجات الفخّار، والأسفل توضع فيه مواد الإشعال من مخلّفات زراعية كالبوص وعيدان المحاصيل الزراعية لكي تشعل كوقود، ويستمر إشعال النيران في (المسلقة) حتى تُشوى المنتجات الفخّارية الموضوعة في الطابق الأعلى، ومن ثم تُترَك لمدة يوم كامل لكي تبرد، ثم تستخرج المنتجات تمهيدا لتسويقها بعد ذلك».

راهنا، تواجه صناعة الفخّار مشاكل وعقبات عدة يمكن أن تحول دون استمرارها. ويشكو «المعلّم» أحمد منصور، وهو صاحب مصنع فخّار، من مشكلة التمويل المادي التي تتمثل بغلاء المادة الخام وصعوبة نقلها، فيقول «نقلة المادة الخام تُباع حاليا بسعر 130 جنيها (20 دولارا أميركيا) للنقلة. ثم ندفع 30 أجرة الشاحنة، وكل عامل يحصل على 50 جنيها على الأقل، ومادة الحرق التي تستهلك نحو 500 جنيه (83 دولارا)، كما أن الجاموس الذي يعجن الطين الطفلي يكلف الكثير».

وبالفعل، ما يلفت أن القلل التي يستمتع الناس بمائها البارد تباع بأسعار زهيدة لا تناسب أبدا المجهود المبذول فيها، ولا سيما عناء العاملين. وهو ما يقوله أحمد نجار، الذي يمتلك مصنعا للفخّار. ويشرح نجار: «العاملون في مجال الفخّار يخرجون تحت أشعة الشمس الحارقة، ووسط منحنيات الجبال الخطرة المليئة بالثعابين السامة والذئاب المفترسة، صباح كل يوم لجلب خام الفخّار من جوف الجبال لاستخدامه في صناعة الأواني الفخارية»، مضيفا أن صناعة الفخار «تكاد اليوم تندثر بفعل غزو الصناعات الحديثة».