تجارة خيوط الغزل والحياكة في تونس.. البقاء للأرخص والأسوأ

المنتجات الاصطناعية غزت السوق

خيوط الغزل الأصلية تتراجع أمام غزو البدائل الاصطناعية («الشرق الأوسط»)
TT

اختفت مهنة غزل الصوف أو كادت في تونس، لتفسح المجال أمام الخيوط الاصطناعية أحد إفرازات صناعة البتروكيماويات. وبذا، يسدل الستار على صناعة تقليدية عريقة، وطريقة حياة سادت قرونا عديدة، لكنها تذوي الآن أمام زحف بدائل أقل منها جودة وقيمة معيارية بمعايير الانتخاب الطبيعي نفسه، فليس البقاء للأفضل ولا للأصلح، ولا حتى للأقوى، دائما.. وإنما للأرخص والأسرع، ولو كان رديئا. فالواقع أنه ما عادت هناك أسواق دائمة في المدن التونسية لبيع خيوط الغزل والصناعات الصوفية، كما كان الحال إلى وقت قريب، بل صمدت دكاكين متفرقة داخل الأسواق، تبيع خيوطا اصطناعية سواء لصناعة البطاطين أو الملابس الرجالية والنسائية عن طريق الحياكة اليدوية.

وفي السوق، تجد من دفعت به الظروف السياسية السابقة في تونس لممارسة مهنة الوالد، مع أن دراسته وتخصصه في مجال آخر، مثل «سي» حمدة غزية. «سي» حمدة قال لـ«الشرق الأوسط»، خلال لقاء معه، إنه وافد للسوق بخلفية مهنية مختلفة، إذ كان من كوادر وزارة النقل. وتابع «بدأت بممارسة هذه التجارة في سن متقدمة، ولذا أعتبر نفسي متطفلا بعض الشيء على الصنعة. لقد مارستها بعدما تجاوزت سن الثلاثين بحكم الظروف السياسية غير المواتية لي أيام النظام التونسي السابق».

وتابع «هذه المهنة تقاليد عائلية، ولكن الوالد تركها قبل أن أعود إليها بعشر سنوات، وذلك بقرار شخصي بعد تراجع الإيرادات. ولقد اضطررت لإنعاش هذه المهنة وسط العائلة في أعقاب طردي من العمل ظلما وإيداعي السجن لمدة عام وشهر. وبعد خروجي من السجن في تسعينات القرن الماضي، أعدت فتح دكان والدي، والحمد لله بارك الله في هذا العمل، ومنه نقتات طيلة السنوات التسع عشرة الماضية». في مارس (آذار) الماضي، عاد «سي» حمدة إلى عمله بوزارة النقل، بعد ابتعاد طال نحو عقدين من الزمن، إلا أنه أحب تجارة بيع خيوط الغزل، وهو اليوم يمضي وقت فراغه في المحل، قائلا «من لم يعش سنوات الجمر لا يستطيع معرفة كنهها. حتى في قوت عيالي كنت مضايقا ومطاردا وممنوعا، فعندما فتحت دكان والدي تعرضت لمضايقات الأمن السياسي، ولم يغلق الدكان فقط لأنه كان باسم والدي، وكنت في الصورة كما لو أني مجرد عامل». وحقا، تعرض «سي» حمدة لأزمة صحية أثناء وجوده في السجن، حيث رفضت الإدارة إجراء التحاليل اللازمة له وهو اليوم مصاب بداء السكري.

عودة إلى خيوط الغزل، التي كانت لها أسواق عامرة في تونس، وتعتمد أساسا لصناعة الزرابي (السجاد اليدوي التونسي الشهير) والبطاطين والملابس. وحسب «سي» حمدة غزية، «كانت المهنة في الأصل بيع منتوجات الصوف، وتحديدا خيوط الغزل، ولكن مع تدهور هذه الصناعة بسبب قلة الاهتمام من السلطات السياسية، وفتح المجال أمام المنتوجات الصناعية الرخيصة والرديئة، اختفت الخيوط الصوفية، وصارت الخيوط الصناعية هي المسيطرة على السوق، بيعا وصناعة واستهلاكا». واليوم، يشكو أرباب المهنة من قلة الإقبال على خيوط الغزل، ومن تراجع عدد الحرفيات اللاتي يمتهن صناعة الملابس من خيوط الغزل. إذ قال الحرفي عبد الله دمق «عدد النساء اللاتي كن يمتهن صناعة المعاطف (الصوفية) والسترات (الصوفية) والجوارب والقفازات والأكف التي تستخدم في دلك البدن أثناء الاستحمام - ويطلق عليها في تونس اسم (كاسة) - قل في تونس بشكل كبير، ويمكن القول إنه انخفض بنسبة 70 في المائة». وأضاف «الوضع المادي للمستهلك ساهم هو الآخر في تراجع هذه الصناعة، سواء على مستوى نوعية المواد المستخدمة (من الصوف إلى الخيوط الاصطناعية) أو القيمة المادية للمنتوجين الأفضل من جهة، والأرخص، لأن الأفضل أرفع سعرا وهو دون الطاقة الشرائية لكثيرين». لكن ما يثير فعلا هو قلة مراهنة أرباب الصنعة أو الحرفة أو المهنة على الطبقة الميسورة، التي يقول بعضهم إنها ضحية الإعلانات (الإشهارات) التلفزيونية.. التي ليس منها الصناعات الصوفية المرموقة.. التي ليس منها الصناعات الصوفية المرموقة. ولم تزاحم الخيوط الاصطناعية خيوط الغزل المصنوعة من الصوف (الأرقى) فحسب، بل أصبح لها مصانع في تونس، كالمصنع الذي يقع في منطقة حاجب العيون بوسط تونس. ولم تصنع خيوط موازية للصوف فقط، بل هناك حرير اصطناعي أيضا. ويتحدث كثيرون عن المطبخ والطعام المطهو على الكهرباء والغاز ودوره في مذاق الأطعمة وانعكاسات ذلك على الصحة، لكن الثقافة الصحية المتعلقة بالملابس، وتحديدا، تلك المصنوعة على طريقة الحياكة و«الكروشية» (أي المحبوكات) وملابس النساء الريفيات اللاتي يتخذن من خيوط النسيج والحياكة الاصطناعية وغيرها أحزمة لملابسهن وغيرها.. ظلت دون الانتشار المطلوب. أصحاب المهنة يقولون إن السياح الأجانب يقفون مشدوهين أمام خيوط الغزل التونسية «لأن هذه الصناعة اندثرت عندهم تماما، وأصبحت منظمة في مصانع. أي إنها ما عادت حرفة يدوية تمارسها النساء في المنازل للأغراض الشخصية أو التجارة الصغيرة»، ويتابع أحدهم «حتى العاصمة الفرنسية باريس، على كبر حجمها وعراقتها، لا يوجد فيها سوى محل واحد لبيع خيوط الغزل».

الجهات الرسمية التابعة لوزارة السياحة والصناعات التقليدية، ترى أنها تقوم بواجبها من خلال الدورات السنوية التي تنظمها لصالح الفتيات الراغبات في تعلم حرفة الحياكة أو «الكروشيه». وقال مصدر تابع للصناعات التقليدية لـ«الشرق الأوسط» - طالبا إغفال هويته «إننا ننظم دورات لتعليم الفتيات فن استخدام خيوط الغزل في حياكة ونسج الملابس.. الدورة تستغرق سنة كاملة أحيانا، وتحصل بعدها المتخرجة على شهادة (دبلوم) تمكنها من تلقي قرض بنكي لشراء ما تحتاجه من معدات للإنتاج»، ولكن لا تتلقى المتدربات التشجيع الكافي، فعمل المتدربة يكافأ بـ15 دينارا تونسيا فقط في الشهر الواحد، حسب ما أفاد به المصدر.