تونس: صعوبات تواجه موسم جني التمور بين الفلاحين والمصدرين

القطاع يوفر العمل لأكثر من 50 ألف فلاح

إنتاج التمور في تونس عملية لم تعد مجزية («الشرق الأوسط»)
TT

تتحول مناطق الجنوب التونسي خلال أشهر الخريف إلى ما يشبه خلية النخل، فالفلاحون أصحاب بساتين النخيل ينفضون عن أنفسهم راحة الأشهر الماضية ويتوجهون بعائلاتهم إلى واحات النخيل حيث الخير الوفير. عائلات بأكملها تعيش على ما توفره تلك الشجرة الباسقة الفارعة الطول. شاحنات وتجار وسماسرة يتحولون إلى مناطق الجنوب التونسي، وخاصة واحات توزر وقبلي حيث تجتمع هناك نسبة تفوق 90 في المائة من إنتاج تونس من التمور الرفيعة وعلى رأسها «دقلة النور» الشهيرة.

موسم 2011 قد لا يختلف عن غيره من المواسم، وهو لا يزال يعاني من نفس الصعوبات تقريبا، من بينها صعوبة الحصول على اليد العاملة المختصة في عمليات الجني الصعبة، وكذلك سيطرة الوسطاء، وما يعرف في تونس بـ«القشارة» على «صابة التمور» وفرض أسعارهم على السوق. فالكيلوغرام من التمور يباع على عين المكان في الواحة بسعر لا يزيد على الدينار والنصف (نحو دولار أميركي واحد)، وتجدها في الأسواق التونسية بأسعار لا تقل في كل الأحوال للأنواع الجيدة عن أربعة دنانير تونسية (قرابة مرتين ونصف من سعر الشراء على عين المكان) أما الكيلوغرام من «دقلة النور» فسعره لا يقل عن 6 دنانير تونسية، وهذه الوضعية تتكرر لدى الفلاحين المنتجين للتمور في كل موسم ولم يجد الفلاحون والهياكل المهتمة بالقطاع حلولا جذرية لها.

يقول عبد الملك عمارة، منتج للتمور بمنطقة توزر، إن التمور لم تعد مجزية للفلاحين، فالإنتاج لم يعد قادرا على تغطية التكاليف المتزايدة من مياه ري وأسمدة ويد عاملة ماهرة، خاصة خلال عمليات التلقيح والجني، وكذلك عمليات تغليف الإنتاج بما يسمى «الناموسية» التي تباع الواحدة منها بـ450 مليما تونسيا، وقد أصبحت ضرورية لحماية «الصابة» وضمان الجودة الضرورية. وأضاف أن الفلاح لا يمكنه تحديد أسعار البيع بل هو ضحية المصدر أو «الوساق» بلغة السوق، فهو الذي يحدد السعر المناسب، وغالبا ما يتحالف المصدرون وأصحاب المخازن ضد الفلاحين ويفرضون أسعارا واحدة منذ البداية، ويتكلمون لغة واحدة تجعل الفلاح يرضخ لعدم قدرته على تسويق المنتج وحده، وما تتطلبه العملية من تكاليف ووسائل نقل وبحث عن الأسواق. ويعتبر عبد الملك أن التسعيرة المتفق عليها بين المصدرين والهياكل المهنية بصفة أولية لا تطبق، ويكون الاتفاق النهائي بين الفلاح والمصدر على أسعار دنيا غالبا ما يقع الاتفاق حولها على رؤوس النخيل وتلك الأسعار غالبا ما تكون في غير صالح أصحاب غابات النخيل.

وتعترض المصدرين أنفسهم تخوفات كثيرة عند نقل المنتوج، وكذلك بسبب نقص السيولة المالية والتخوف من عدم حماية «الصابة» على رؤوس النخيل، خشية تعرضها للسرقات. وهذا الوضع جعل بعض الفلاحين يبيعون الصابة بأنفسهم دون وسطاء والتوجه مباشرة إلى أسواق الجملة، وقد مكنتهم هذه العملية من تحقيق عائدات مهمة فتمكنوا من بيع التمور بأسعار تراوحت بين الدينارين والثلاثة دنانير تونسية، في حين أن أسعار البيع على رؤوس النخيل لم تتجاوز حدود الدينار والدينار ونصف الدينار على أقصى تقدير.

والمعروف أن القطاع يوفر الشغل لأكثر من 50 ألف فلاح تونسي كما أنه يضمن أكثر من مليوني يوم عمل في قطاع الإنتاج كل موسم. ويؤكد سفيان المؤدب المدير العام للمجمع المهني المشترك للغلال أن التمور التونسية ستصل إلى 72 دولة من دول العالم، بعد أن كان عدد الأسواق لا يتجاوز 67 سوقا خلال الموسم الماضي. وسجل الإنتاج أرقاما قياسية إذ من المنتظر أن يحقق 190 ألف طن مقابل نحو 174 ألفا خلال موسم 2010. وتوجد بتونس قرابة 5.5 مليون أصل نخيل تنتج سنويا أكثر من 200 نوع من التمور أجودها «دقلة النور» إلى جانب «العليق» و«الكنتيشة» وهي أنواع ضعيفة الجودة وغير قابلة عمليا للتصدير. وتمثل «دقلة النور» نحو 70 في المائة من مجموع الإنتاج، وتحدد وزارة التجارة سنويا تسعيرة الكيلوغرام الواحد من التمور، إلا أن معظم المتدخلين في القطاع لا يعملون بها. وتوفر عمليات التصدير سنويا قرابة 20 مليون دينار تونسي (نحو 15 مليون دولار أميركي).

وتقول مفيدة الزراعي، فلاحة منتجة للتمور، إن التسعيرة الحقيقية لمنتجات الواحة لا تحددها وزارة التجارة التي تعمل مطلع كل موسم على جمع كل المتدخلين في القطاع وتعلمهم بها، ولكن أرض الواقع مختلفة تمام الاختلاف عن عمل المكاتب. فالمصدر الذي يملك الأموال واختلال موازين القوى لصالحه هو الذي يحدد في نهاية الأمر السعر الذي سيدفعه للفلاح. وتقول نورية العثماني، إنه من المعروف أن الكثير من الفلاحين ليست لهم موارد ومداخيل أخرى طوال السنة سوى ما تجود به شجرة النخيل، فالفلاح يستدين طوال أشهر و«يقيد» نفقاته على حساب الصابة وينتظرها لأشهر، وهو في وضع لا يحسد عليه، فهو مطالب بتسديد الديون المستحقة ويريد من ناحية أخرى أن يضمن سعرا يكفل له المصاريف الكثيرة التي تكبدها. وتقول العثماني هي معادلة صعبة غالبا ما يكون أصحاب الأموال هم الرابحين في نهاية المطاف.

بين الفلاح والمصدر عملية معقدة وصعبة تبدأ مطلع كل خريف وتتواصل في مد وجزر لمدة أشهر. كل طرف يسعى لضمان الحظ الأوفر من المال على حساب الآخر، وفي مثل هذه الحالات تكون الحصيلة بملايين الدنانير، لذلك تتواصل العلاقة متوترة فيها شد من الطرفين المطالبين بالعيش جنبا إلى جنب رغم العداوة الخافية والمودة الظاهرة.