مصر: «ابن البلد» رجل السلم الخشبي.. لقمة عيش على حافة الخطر

يظهر بقوة في موسم الانتخابات ويثير دهشة الصغار

لافتات.. خلفها جهد «ابن البلد» و«الشيّال» المساعد («الشرق الأوسط»)
TT

بفضاء الطفولة، يذكّرنا مشهده وهو يعلو سلما خشبيا مرتفعا، يحرّكه يمنة ويسرة بانسيابية ورشاقة عالية. فقد اعتدنا أن نرى هذا المشهد في المناسبات والأعياد، خاصة أن الرجل يعلق أشياء ويربط أخرى. وهو يمارس عمله بشجاعة، من دون أن يشغله تكاثر المارة ولا زحام الشوارع، ويرد على صيحات وهمهمات الأطفال تحت منصته العالية بابتسامة ود.. كأنه نجم سينمائي يحظى بالمعجبين.

«ابن البلد» هذا، لقب الرجل الذي يمارس لساعات كثيرة على ارتفاع 5 أمتار، هي ارتفاع السلم الخشبي الذي يقف عليه، عمله من تعليق شعارات ولافتات وصور للدعاية الانتخابية أو إقامة صوان (صيوان) لأفراح أو لعزاء أو ندوات وشوادر.

وفي الانتخابات البرلمانية المصرية التي أنهت فصلها الأول قبل أيام وتعد العدة لفصليها الأخيرين انتزع «ابن البلد» لحظات مشاهدة خاصة، حين عاد لممارسة عمله في الشوارع والميادين، معلقا لافتات المرشحين وصورهم وسط دهشة المارة الناظرين إليه.

في منطقة منشية الصدر، أحد الأحياء الشعبية بشرق القاهرة، سألت «الشرق الأوسط» عن مهنة «ابن البلد» الحاج حنفي عبد العاطي، صاحب محل فراشة كبير بالمنطقة، وهو يجلس في محله المليء بعروق الأخشاب وأقمشة الخيام والصوانات ذات الألوان الحمراء المتداخلة، فقال: «منذ يوم ولادتي وأنا في هذه المهنة. لقد ورثتها عن أبي وورثها أبي عن جدي، ولكن دخل كثيرون إلى المهنة خلال السنوات الماضية، فتسببوا (في وقف حال) سوق الشغل لكثرة أعدادهم».

وبعدما أشعل الحج حنفي (67 سنة) سيجارة، استأنف حديثه عن أوضاع المهنة ماضيا وحاضرا، بالقول: «ما عاد الناس كسابق عهدهم، كانوا في الماضي يقيمون الأفراح فوق أسطح البيوت أو يقيمون صوانا في متسع الشارع. وكان الشارع سوقا لنا، أما الآن فالناس يفضلون إقامة الأفراح والعزاء في صالات مخصصة ذلك أو في دار للمناسبات، وهذا الاتجاه يؤثر كثيرا وبصورة سلبية على لقمة العيش».

ويروي الحاج حنفي عن طبيعة الشغل في محله، شارحا أنه يعمل معه ابنه وعامل واحد آخر، لكنه يعتمد على آخرين من متسلقي السلالم، أو «أبناء البلد» - كما أطلق عليهم - إضافة إلى «شيال» - أي حمال - يساعد «ابن البلد» في حمل اللافتات إذا احتاج الشغل ذلك. وتابع «ركوب السلم يحتاج إلى مهارة كبيرة وتدريب يمتد لسنتين أو أكثر، بالإضافة إلى سحب السلم الذي يصل طوله إلى 5 أمتار والمصنوع من خشب الزان، حتى يتمكن (ابن البلد) من المشي به وتعليق اللافتات وربط الحبال وفكها بكل مهارة ولياقة، كي لا يسقط من هذا الارتفاع فيؤدي إلى تعرضه لكسور أو حتى مقتله».

ويتحدث الحاج حنفي، وهو يجسد بيده الشكل الذي يعلق به الدعاية الانتخابية، مفسرا: «يجري ربط ثلاثة عروق خشبية يبلغ طول الواحد منها 6 أمتار، حيث يقوم ابن البلد والشيال الذي يساعده بنصبها على شكل باب على نواصي الشوارع. ولهذا نطلق عليها اسم (بوّابات)، ثم يتولى ابن البلد ربط قماش الخيمة بحبال قوية، حتى لا تؤثر فيها حركة الهواء».

الحاج حنفي يرى أن هذه المهنة «إنسانية في المقام الأول»، ويتذكر أحد المواقف في الأعوام السابقة، حين كان ينصب دعاية انتخابية لأحد المرشحين، «.. وصعد ابن البلد لينصب لافتة الدعاية، ولكن فور صعوده تحرك بشكل خاطئ، مما أدى إلى انزلاق السلم وسقوط ابن البلد من ارتفاع 5 أمتار، وإصابة ساقيه بكسور مضاعفة. وعلى الفور، حملناه كلنا إلى المستشفى، وأنفقنا عليه حتى شفاه الله». وأردف «إن من يعمل كابن بلد يكون أرزقي (مياوم)، ليس له مرتب أو معاش يتقاضاه إذا ما جلس في المنزل»، موضحا أنه «إن لم يهتم بحالته، خاصة أن المؤجِّر لا يعبأ بالكوارث التي نتعرض لها، وإذا تركنا العامل، فلن يستطيع الإنفاق على أسرته».

وحول طبيعة الانتخابات هذا العام والأعوام السابقة، قال الحاج: «كنا نشارك في الأعوام الماضية في الانتخابات بتعليق اللافتات على نواصي الشوارع، وإقامة الندوات والمناسبات لعرض برامج المرشحين بالإضافة إلى المسيرات في الشوارع، إلا أن هذا العام على الرغم من وجود نسبة أكبر من المرشحين، والإقبال الأكبر علينا، اقتصرت الدعاية الانتخابية على تعليق اللافتات في الشوارع». وتذكر الحاج حنفي موقفا لأحد مرشحي الحزب الوطني المنحل السابق، الذي مر أمام محله فوجد مرشحا لحزب آخر يجلس مع الحاج، فغضب وقال له لماذا هذا الرجل هنا وماذا يفعل؟ فرد عليه الحاج حنفي بما معناه أنه لا يهتم بالشأن السياسي لأنه يرى أن مهنته تحتم عليه إقامة علاقات بكل الناس من دون النظر لميولهم الشخصية.

والواقع أن الإقبال على محلات الفراشة ينشط في أوقات الانتخابات والأعياد وشهر رمضان، وتعد من المواسم المهمة. إلا أن الحاج حنفي يقول «كانت الشوادر التي ننصبها في الشوارع ممنوعة طوال العامين الماضيين، وكنا قبل ذلك نعمل على نصب موائد الرحمن طوال شهر رمضان، وكذلك شوادر الخرفان وقت عيد الأضحى، وكان ذلك لقمة عيش لنا». من ناحية أخرى، من الطبيعي أن لكل مهنة مساوئها. ولهذا يقول الحاج حنفي عبد العاطي «إذا نصبت بوابات ثم فقدت في سرقة لا أحد يعوضني عن هذه الخسارة. عرق الخشب بمفرده ثمنه 150 جنيها، والبوابة تتكون من ثلاثة عروق. ثم إذا كسرت أيضا في ندوة أو دعاية أو ما إلى ذلك.. لا يهتم المؤجِّر بذلك، فهو يدفع ثمن التأجير فقط، ولذا امتنعت عن إقامة منصات للشباب في ميدان التحرير، بوسط القاهرة، وإقامة ندوات وبوابات تبعد كثيرا عن موقع المحل، وذلك لكي أتمكن من متابعتها، فكل مرشح له أعداؤه الذين ينتظرون الفرصة السانحة لتمزيق صوره».