شتاء لبنان.. شاهد صامت على نمط معيشة طواه النسيان

كان الاكتفاء الذاتي ضرورة عندما تعزل الثلوج القرى

الثلج يكلل قمم جبال لبنان
TT

في مثل هذه الأيام من كل عام تعيش القرى الجبلية في لبنان فصل شتاء بارد، في العادة تكلل الثلوج خلال القمم والمنحدرات وتعطي الريف نكهة خاصة. وعلى الرغم من أن لبنان من أصغر الدول العربية مساحة، إذ لا يصل إجمالي مساحته إلى 10500 كلم مربع، فإن طبيعة أرضه الجبلية وفرت في الماضي ولا تزال توفر تنوعا غنيا في البيئات المعيشية، والمنتجات الزراعية، وإلى حد ما، العادات والتقاليد. ومع أن التقنيات الحديثة أسهمت في اضمحلال الكثير من التفاوت في نمط الحياة بين بيئة وأخرى، فإن الذي يزور المناطق الريفية في لبنان يستطيع إلى حد ما مشاهدة نماذج معمارية لما كانت عليه القرى في الماضي، وطبيعة النشاط الاقتصادي الذي كانت تقوم عليه.

مدن الساحل اللبناني، التي نمت بسرعة خلال القرنين الأخيرين نتيجة لازدهار قطاع الخدمات وتسارع إيقاع هجرة المواطنين الأرياف باتجاه المدن والاستقرار، خصوصا في العاصمة بيروت، بذلت جهودا كبيرة للمحافظة على بعض معالمها وأسواقها وخاناتها القديمة، ولا سيما في مدينتي صيدا وطرابلس، اللتين هما اليوم نقاط جذب سياحي. ولكن المدن الساحلية اللبنانية لا تختلف كثيرا في بيئتها المعيشية والاقتصادية عن جاراتها في منطقة شرق البحر المتوسط، في حين ميّز التراث الجبلي، في المقابل، حياة اللبنانيين عبر القرون.

لقد وفّرت الجبال دائما ملاذا آمنا للناس في المناطق المضطربة، ولا سيما عند تعاقب الدول وتجريد الحملات العسكرية ونشوب الحروب وما تحمله معها من ويلات وأوبئة ومجاعات وخلافه. وفي الجبال، وبالأخصّ جبال بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين)، استقرّت العشائر العائلية على مدى القرون وترسّخ وجودها عبر روابط الزواج والتحالف والعداوات، بينما كانت مدن السواحل على الدوام عرضة لهجرات ونوبات من التغيّر الديموغرافي، خصوصا أنه كان من المستحيل الدفاع عنها عسكريا إلا ببناء قلاع وحصون فيها أو حولها.

في جبال لبنان، التي هي الأكثر ارتفاعا في بلاد الشام، فرضت طبيعة الأرض الصخرية على سكانها تحدّيات صعبة، علّمتهم بمرور الزمن الاعتماد على النفس، واستغلال ما يمكن استغلاله من موارد محدودة. وهكذا نجحوا في زرع ما تيسّر لهم من أراض خصبة قليلة على منحدرات معرّضة في كل شتاء لانجرافات وانزلاقات، واجهها اللبنانيون بالمدرّجات الجبلية المعروفة عند العامة بـ«الجُلول»، جمع جل، وهي الأراضي المستوية المدعّمة عند أطرافها بالحجارة.

ومن جهة أخرى، كان لارتفاع القرى الجبلية اللبنانية عن سطح البحر، وتعرّضها سنويا لقسوة الشتاء القارس البرودة، دور مباشر في بناء ثقافة الاكتفاء والادخار. فقبل شق الطرق الحديثة وانتشار استخدام السيارات ووصول التيار الكهربائي إلى القرى الجبلية ما كان هناك خيارات كثيرة عند السكان للتأقلم مع احتمالات عزلة قراهم سواء بحكم تراكم الثلوج الهاطلة لبضعة أشهر من ديسمبر (كانون الأول) وحتى مارس (آذار)، أو انزلاقات التربة التي كانت تتسبّب في قطع السبل وعزل القرى إحداها عن الأخرى.

كثيرون كتبوا عن تراث القرية اللبنانية، الذي بات الآن في طريق الزوال، نتيجة غزو الحداثة الفجة، وإهمال البيئة، والهجرة المتسارعة إلى المدينة. وأبرز هؤلاء الراحلان البروفسور أنيس فريحة والمؤرخ الشعبي سلام الراسي. ولقد كتب فريحة، وهو من بلدة رأس المتن في جبل لبنان، في هذا المجال ثلاثة كتب قيمة هي: «اسمع يا رضا» (1956)، و«معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية» (1972)، و«معجم الألفاظ العامية» (1973). أما الراسي، وهو من بلدة إبل السقي بجنوب لبنان، فبين مؤلفاته «في الزوايا خبايا» (1974)، و«حكي قرايا وحكي سرايا» (1976)، و«الناس بالناس» (1980)، و«حيص بيص» (1983)، ثم «لئلا تضيع»، و«الجود من الموجود.. من الأدب الشعبي»، و«شيح بريح».

في الماضي، حتى مطلع القرن العشرين، لم تعرف معظم القرى الجبلية انتشارا للإسمنت المعد لبناء البيوت أو الإسفلت (الزفت) المخصّص لتعبيد الطرق. وفي ظل هذا الواقع البيئي كان الحجر الصخري المنحوت وجذوع الأشجار وأنواع معينة من الطين المقاوم لتسرّب الماء تخلط بحصى صغير الحجم هو المكوّن الأساسي للبيت القروي في جبال لبنان. هذه المكوّنات كانت موجودة أمام القروي، الذي كان يبني الجدران السميكة بالحجر الصخري المنحوت، ويدعمها من الداخل بالطين العازل (الكلّين) وطبقة من الكلس الأبيض الذي يعطي الغرف ذات الأبواب والنوافذ الصغيرة انعكاس ضوء مقبول. أما السقف فكان يبنى من جذوع الأشجار المسماة «المدود» (جمع مد). وكانت هذه الجذوع تصف على مسافات متقاربة، وتجعل فوقها طبقة ثانية من الأخشاب أو عيدان الحطب الأصغر حجما بطريقة مستعرضة لسد فجوات الطبقة الأولى، وإذا كانت ثمة حاجة تصف طبقة من قطع أصغر من الحطب، قبل أن يمد فوقها الطين المبلل بالماء والممزوج بالحصى. ومن ثم يصار إلى رصّ أو دحل الطين بـ«المدحلة»، المعروفة عند العامة بـ«المحدلة» أو «الماعوس»، وبذا يكتمل السقف.

دحل السقف كان مسألة ضرورية سنويا، وإلا تشقّق بفعل العوامل الطبيعية. وعند التشقق لا بد أن يتسرّب ماء المطر والثلج إلى الخشب وجذوع الشجر فتضعف وينهار السقف. ولذا درج الشعر الشعبي في لبنان على الإشارة إلى «السقف المفخوت» (أي المثقوب) للدلالة على هجرة أهل البيت، التي أدت إلى التوقف عن دحل سقفه.

حجم الغرف كان يفرض أحيانا إضافات مميزة، أبرزها وجود عمود داخل الغرفة الكبيرة يشكل ركيزة لقنطرة أو أكثر تحمل عددا أكبر وأطول من «المدود». كذلك كانت الغرفة من الداخل أكثر من مجرد حيّز عادي للمعيشة والنوم. إذا كان في جدرانها السميكة «اليوك»، أي التجويف المفتوح والمغطى بستارة، وهو مخصّص لوضع الوسائد والأفرش (الطراريح: جمع طرّاحة) والملاحف والبطانيات. وكان في جدران أخرى «الكوارة» (جمعها «كواير»)، وهي مستودع أو مخزن جداري داخلي للقمح والحنطة وما إليه من حاجات البيت الغذائية. وكانت «الكوارة» تتألف من فتحة كبيرة قرب أعلى الجدار لصب الحنطة وخلافها، وثغرة صغيرة قابلة للسد مع سدّادة لها، يصار إلى فتحها عندما يحتاج أهل البيت إلى استهلاك ما في «الكوارة».

أما المأكولات والمشروبات التي كانت توضع على مائدة القروي اللبناني في تلك الأيام، والتي تقاوم الآن غزو الوجبات السريعة والمأكولات المستوردة، فكانت كلها إما من الإنتاج الزراعي في الحقول، وإما الإنتاج الحيواني من الدواجن والمواشي التي كان يقتنيها القروي بصفة دائمة أو موسمية. وفي غياب وسائل التبريد والحفظ الحديثة استهلك القروي المأكولات القابلة للحفظ كالكشك والبرغل والزيتون والزيت والتين المجفّف والمعقود (المطبوخ) والزبيب (العنب المجفّف) والمربّيات والدبس والتين المعقود أو المطبوخ، والخضار المكبوسة (الكبيس والمكدوس، أي «الطرشي»)، والألبان المحفوظة بالزيت والأجبان، واللحم المجفّف المحفوظ بالدهن (القاورمة). كذلك هناك مختلف أنواع الحنطة والزعتر والخلّ والعسل والسمسم والصنوبر التي إما تنتج محليا وإما تُشترى موسميا من مناطق أخرى، وكانت تُجلَب أما بواسطة المزارع نفسه عندما يقصد مناطق إنتاجها في الساحل، أو سهل البقاع، أو يحملها «المُكارية» على ظهور دوابهم أو «الجمّالة» على ظهور جمالهم.