أحزمة الفقر حول المدن التونسية تبتكر تجارتها الخاصة

في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة.. والبطالة المرتفعة

لطيفة الفريوي تبيع الخبز الطازج على جانب الطريق («الشرق الأوسط»)
TT

في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة، التي تمر بها تونس، ونسبة الفقر التي تجاوزت 24 في المائة، وموجة البطالة التي تخطت سقف الـ700 ألف إلى نحو مليون عاطل عن العمل، عمد كثيرون من التونسيين، وتحديدا النساء، إلى اعتماد وسائل جديدة لكسب الرزق بدلا من انتظار مشاريع الحكومة الجديدة.

بين الوسائل الجديدة صناعة الخبز القروي (البلدي) المحشو بمعجون الفلفل الأحمر والأخضر المخلوط بالبهارات، الذي يطلق عليه في تونس اسم «الهريسة»، وبيعه على جوانب طرق السيارات. وقد يضيف بعضهم إلى «اللمجة»، (أي الشطيرة أو الساندويتش) شيئا من لحم سمك التن (التونا) أو السردين المعلب، أو يعوض التن بالبيض المقلي، الذي يخلط مع الهريسة الخضراء أو المشوية على اختلاف اللهجات، وعندها فقط يسمى «كفتجي».

لطيفة الفريوي (34 سنة) إحدى النساء اللواتي ذكرن لـ«الشرق الأوسط» أنهن يعملن في صناعة الخبز على الطريقة التقليدية في فرن الطين، الذي يسمى في تونس «الطابونة»، منذ عدة سنوات، لتوفير لقمة العيش لأزواجهن وأبنائهن. وتوضح أن جميع من يتعاطى هذه التجارة من سكان أحزمة الفقر حول المدن، وهم في الأصل من النازحين من القرى إلى بيوت الصفيح على أطراف المدن التونسية، وأغلبهم ممن يدفعون إيجارات المنازل التي يسكنونها.

الفكرة خليط بين إلهامات شهر رمضان المبارك، والحاجة إلى المال. إذ قالت لطيفة «كانت البداية في شهر رمضان، حين يحرص الناس على تغيير بعض العادات في الأكل، وبخاصة الخبز. وقمنا بعرض خبز الطابونة على الشارع فوجدنا إقبالا. وبعد رمضان حاولنا أن نستمر، لا سيما أن المنطقة تعبر منها قوافل القادمين والذاهبين للجنوب، ويضطر الناس لقطع مسافات طويلة. وعندما بدأنا العمل وجدنا ما قسمه الله لنا، فرمضان كان الإلهام والله هو الرزاق في كل الأحوال».

ولم تكتف النسوة من النازحات إلى أطراف المدن، بحثا عن الرزق، ببيع الخبز، بل حولن نقاط وجودهن إلى ما يشبه أكشاك بيع المأكولات الخفيفة والسريعة، وحسب لطيفة «لقد أضفنا بعد فترة الهريسة والزيتون والتن والبيض، والحمد لله يمكننا الحصول على مصروفنا، ونحرص على نظافة ما نقدمه». وفعلا، تبيع النسوة قطعة الخبز المعد في الفرن التقليدي بـ300 مليم، والرقاق بـ300 مليم، أما «اللمجة» فهو يتراوح ما بين دينار، ودينار ونصف الدينار.

من ناحية ثانية، تنفس سكان الأحياء والضواحي الفقيرة الصعداء، بعد الثورة، إذ كف عناصر البلديات عن ملاحقتهم، وتحطيم أفرانهم الطينية وتجريفها، ومصادرة كل ما يملكون من نقود وخبز ومعدات بما في ذلك أسطوانات الغاز، وهنا علقت لطيفة الفريوي قائلة «البلدية جعلتنا نكره الحياة، ونحن نعرف ما معنى أن يحرق محمد البوعزيزي نفسه. كل هذه النسوة لديها مشاكل اجتماعية واقتصادية، وجميع أزواجنا عاطلون عن العمل. لدينا أبناء في المدرسة ولا بد من إيجاد حل ليواصلوا دراستهم، والحل هو أن ننزل لسوق العمل ونأكل بشرف». وأردفت «حتى العائلة التي يعمل أحد أفرادها، كالزوج، ما الذي يحصل عليه يوميا؟ 10 أو 15 دينارا.. ماذا تكفي، لا سيما إذا كان يدخن، هل تكفي حفاظات للأطفال؟ هل تكفي ثمن كيلو واحدا من اللحم (17 دينارا)». واستدركت «زوجي عامل يومي، يعمل يوما ويجلس في البيت 10 أيام، ليس لدينا مورد رزق. وكنا عندما نذهب إلى المسؤولين يقولون لنا انتظروا.. سنة.. 10 سنوات، وإلى ذلك الحين ماذا نأكل، وكيف ندبر أمورنا؟.. لم ننتظر حلولهم وقمنا بهذا العمل، ولكنهم قاوموا محاولتنا الحصول على لقمة عيش نظيفة، وإن كانت مرهقة ومتعبة، ولكن أنقذتنا الثورة، وتحيا تونس».

قصص النسوة مع عناصر البلديات كثيرة، وأصبحت محل تندر. وتروي سعاد حرش (20 سنة) بعض قصص الصراع من أجل البقاء، في مواجهة هجمات البلدية، فتقول «كانوا يحاولون الإمساك بنا، يجرون خلفنا.. وفي إحدى المرات عثرت جارتي، وكان أحدهم قريبا منها فسقط هو الآخر في الاتجاه نفسه». وعما جرى لها شخصيا فذكرت أن لديها 6 أسطوانات غاز ما زالت محجوزة، ولا يمكن استعادتها إلا بدفع غرامة مقدارها 60 دينارا. وتشير إلى أن عناصر البلدية كانوا يعللون تصرفاتهم المشينة بالقول «إنها أوامر من أعلى الهرم، من أعلى الهرم، مع أننا لم نكن نسرق أو نقطع الطرق، بل نعمل لنعيل أسرنا بعدما عجزت الدولة عن تدبير أمورنا». وأردفت «في هذا الحي الذي سموه حي الزهور، وكله نفايات ولا توجد فيه زهرة واحدة، رجاله لا يعملون، شاحنة الحطب بخمسين دينارا».

الغريب أن عناصر البلدية الذين كانوا يطاردون نسوة فقيرات دفعتهن ظروف المعيشة لصنع الخبز وبيعه، أصبحن زبائن، إذ قالت إحداهن «يأتوننا الآن ليشتروا بعض الخبز، ويطلبون منا أن نسامحهم معللين صنيعهم السابق بعبارة ما قمنا به لم يكن بإرادتنا.. كنا مأمورين».

واليوم، تطالب النسوة العاملات في صناعة الخبز على حواف الطرق، ومن بينهن فتيات حاملات لشهادات عليا، مثل كريمة حرش وزكية النابتي والسيدة العبداوي وغيرهن، ممن لديهن في أسرهن معاقون ومكفوفون، السلطات الجديدة بتراخيص قانونية لممارسة عملهن، ومساعدتهن على إقامة أكشاك يتوافر فيها النور الكهربائي ليلا، والماء على مدار الساعة، وكذلك تأمين ما يحمين به خبزهن من غبار الطريق وغيره من عوائد المناخ.

وذكرت لطيفة الفريوي أن النساء العاملات طلبن من السلطات السابقة السماح لهن بنصب أكشاك تتوافر فيها الشروط الصحية على نفقاتهن، ولكن السلطات السابقة رفضت مطالبهن. وطالبت النساء اعتبار حلولهن لتلافي شبح المجاعة من المشاريع الصغرى التي أعلنت الحكومة الجديدة تشجيعها.