صواني القش.. حرفة «ريفية» لا تزال حاضرة في تراث اللبنانيين

من المهن الباقية في ذاكرتهم

صواني القش كانت من «ثوابت» المنزل القروي اللبناني («الشرق الأوسط»)
TT

كثيرة هي العادات الريفية اللبنانية التي لم تندثر، بقيت راسخة كالجبال المحافظة على برودتها وجمال غاباتها الخضراء هناك، الريف اللبناني زاخر بالحرف والمهن البسيطة والمتواضعة المتجذرة بتاريخ وأصالة القرية، حيث بقيت ملامح الريف مرسومة في يوميات الناس، الحياة الهادئة والبعيدة عن المدن والغارقة في حنين قروي، تبدو مليئة بالأشياء الخاصة والحميمية والمتعلقة بجذور السكان الريفيين وتقاليدهم.

لا تزال الحرف اليدوية موجودة في لبنان، لكنها تواجه يوميا خطر الاضمحلال، لا سيما أنها باتت محصورة بالجيل القديم، لأن الأبناء عادة لا تستهويهم الأعمال اليدوية والحرفية التي تتطلب الصبر والدقة. بعض هذه الحرف على شفير الاندثار وبعضها الآخر يحتضر، لكنها لا تزال حية في زوايا عدة من لبنان، خصوصا في القرى النائية، ولا يزال السياح يستمتعون بها.

من المهن الباقية في ذاكرة اللبنانيين، صناعة الصواني والسلال والمكانس من القش، مهنة ليست بحاجة إلى مصدر للطاقة، «لا كهرباء ولا يحزنون» فقط بحاجة إلى ربة منزل متواضعة ويد حنونة «كي لا يتكسر القش». أما مصدر القش فتبقى بيادر القمح وسنابلها، وتعتبر صناعة السلال فنا حقيقيا ارتبط منذ القدم بالحياة اللبنانية الريفية وتأصل مع الوقت، لا سيما بعد تحول السلال رفيقة الفلاح اللبناني في المواسم، حيث تستخدم لوضع الأكل عليها و«مد السفر»، لا تتطلب هذه الحرفة سوى وجود القش المنقوع بالمياه حتى يلوّى ولا يتقصف، ومهارة يدوية. تنتشر هذه الحرفة في ثلاث مناطق لبنانية عدة: عمشيت، والكواشرة، وفي قرى وبلدات زغرتا وفي الجرود العكارية النائية.

صواني القش كانت من «ثوابت» المنزل القروي اللبناني، غير أنها أخذت تفقد مكانتها خلال السنوات العشرين الأخيرة لصالح صواني الألمنيوم والبلاستيك الرخيصة. لكن على ما يبدو فإنها تستعيد شعبيتها، وراحت تنهض من جديد كمهنة.

أم عامر تجلس كل يوم عصرا، على مسطبة بيتها في قرية «بيت أيوب» إحدى قرى جرود عكار (شمال لبنان) العالية والمنسية بين أشجار الصفصاف والسنديان والتفاح والدراق. امرأة عمرها يتجاوز السابعة والسبعين، فهي لا تعرف تحديدا متى ولدت. في جلوسها العفوي استراحة من الدنيا، في نعاس خفيف يقطعه من وقت إلى آخر تحية وسلامات من المارة والجيران من الأقارب والأصدقاء في القرية. هي لا يزعجها الأمر، بل على العكس تشعر أن «الدنيا ما زالت بألف خير»، تنظر إلى المارة بلهفة، وتبتسم، كثيرون هم زوارها فحين يرونها مشغولة بشك القصب وتصميم سلال القش، يعرفون أنها تحتاج إلى من يحادثها ويسليها، فهي المرأة الأكثر شعبية في القرية ولا تستطيع أن تعيش من دون الناس فهي على ما تردد دوما المثل الشعبي «الجنة بلا ناس ما بتنداس». تأخذ استراحتها في ذاك الوقت بعد عودتها من البساتين، حيث تقطف أوراق العرانيس الخضراء لتجلبها للماعز، وتقوم بسقاية الأرض وقطف أزرار الكوسا و«قرون» اللوبياء. تعود لتجلس وتستريح ولتعود إلى عمل آخر، كانت تتقنه وتحبه إلا أن زمنه انقطع وصار تراثا.

ولدت أم عامر في «بيت أيوب» في عائلة مزارعة ومكافحة للحصول على لقمة العيش في زمن الحربين العالميتين، والاستمرار في الحياة، على الرغم من صعوبتها، تذكر أم عامر من طفولتها ذكريات شحيحة، على الرغم من أنها تملك ذاكرة «بريمو» على ما تصف فإنها تتمسك بذكريات قليلة تراها «رائعة وممتعة»، فهي تحب أن تفصّل حكاياتها الأولى في البساتين والحقول مع رفيقاتها اللواتي كن يذهبن للحصاد والزراعة والمساعدة في المواسم في زمن الإقطاع، تقول: «كنا نستمتع رغم قساوة العيش والظلم، الذي يلاحقنا من الإقطاعيين بتلك اللحظات التي كنا نقضيها جميعا متحدين ومستسلمين للعمل وقساوته، بإرادة صلبة وحب وتفان». هناك في الحقول زادت رغبتها في التحدي على الرغم من أنها لم تستطع أن تتعلم أو تلتحق بـ«الكتاتيب»، فتعلمت صناعة القش وثابرت لتصبح من النساء اللواتي يملكن مهنة معقولة و«رائجة» في ذلك الوقت، «إذ كان استخدام سلال القش في البيوت أمرا شائعا» وفق أم عامر. ازدادت شهرتها في جرود عكار أيضا لتعلمها على يد والدتها كيف تولد النساء فصارت هي «الولادة» أو «الداية». «الداية» أم عامر يناديها الكثيرون بـ«تيتا» أم عامر لفضلها عليهم في الولادة، حيث لم تكن توجد مستشفيات، وكانت معظم الولادات تتم في البيوت، ولم تكن أم عامر تأخذ مقابل ذلك أي شيء سوى هدية رمزية، وتعتبر ذلك بمثابة «عمل خير»، ولقد أولدت أم عامر أكثر 200 طفل على ما تذكر. ترشف أم عامر رشفات سريعة من فنجان قهوتها وهي تروي حكايتها مع القش، فتقول: «كنت مولعة به أقضي معظم أوقاتي أتسلى بصناعة السلال بمختلف أحجامها وكنت (أتفنن) بصناعتها وزخرفتها وتلوينها. وتميزت بذلك عن كل من النساء اللواتي عملن في هذه المهنة». تشكو أم عامر من تدهور الصناعات الحرفية في عكار، وتعزو ذلك إلى «التطور والتكنولوجيا وغزو الصناعات الجاهزة»، معتبرة أن الحداثة تقضي على «خصوصيتنا» وتدمر تراثنا. إلا أن ذلك لم يمنع الكثير من الجمعيات الأهلية في عكار من الاهتمام بصناعة القش، وكانت أم عامر مدعوة دوما إلى المعارض الاستذكارية والتراثية التي تقيمها هذه الجمعيات فتشرح للجيل الصاعد عن هذه السلال التي «يرونها عند جداتهم، أو في بعض البيوت التي لا تزال تعلق هذه السلال كمشهد تراثي في بيوتها وعلى جدران صالوناتها». وتتحسر أم عامر على زمن الأصالة الذي ولّى، ولم يعد له أثر في حياة الناس، مؤكدة أن العمل في القش سيبقى على نفس الوتيرة في حياتها اليومية، «ولو بقيت أصنعها لبيتي فقط».