قطار «باي» تونس في رحلة إلى أبواب الصحراء

يطلق عليه اسم «الجرذون الأحمر»

الجرذون الأحمر عبارة عن مجموعة من العربات الحديدية التي كان «باي» تونس حاكم البلاد يستعملها للتنقل في العاصمة التونسية وأحوازها خلال فترة طويلة من القرن العشرين
TT

يطلق «الجرذون الأحمر» صفارته الأخيرة معلنا بداية الرحلة التي تدوم قرابة الساعتين وتقطع مناطق صحراوية هي عبارة عن أكوام من الحجارة الصلدة التي أحرقتها الشمس الحارقة. الرحلة توحي بأن المسافر يقطع مناطق من جبال «الكولورادو» الأميركية في تضاريسها الكبرى، فرقبة «ثالجة» وحدها تمثل عالما ساحرا والقطار يشق عباب الجبال الصخرية الشاهقة في رحلة لا تتكرر كثيرا. و«الثالجة» عبارة عن واد سحيق تنتهي مياهه في شط «الغرسة» ويصب مع وادي «الطرفاوي» في وادي «المالح - الغويلة»، وتخترق تلك الأودية مجموعة من الصخور الكلسية التي تمثل مشاهد طبيعية قلما نشاهدها في أرجاء تونس كاملة.

الجرذون الأحمر أو «السحلية الحمراء»، كما يريد البعض أن يسميها، عبارة عن مجموعة من العربات الحديدية التي كان «باي» تونس حاكم البلاد يستعملها للتنقل في العاصمة التونسية وأحوازها خلال فترة طويلة من القرن العشرين، إلى غاية تخلص الحبيب بورقيبة، الرئيس التونسي الأسبق، من حكم البايات لتونس وإقرار النظام الجمهوري.

كان «باي» تونس العثماني يستعمل ذاك القطار في تنقلاته بين مناطق باردو وتونس والمرسى وحمام الأنف، أي بين قصور ومكاتب العمل، وقصور الاستجمام وقضاء الفترة الصيفية. وتم الرجوع لتلك العربات التي لا تقدر بثمن وبعد سنوات من نسيانها في المخازن دون أن يقع نظر حقيقي في قيمتها التاريخية، وتمت إعادة هيكلتها واستغلالها من قبل وزارة السياحة التونسية في استكشاف مناطق الجنوب الغربي التونسي تلك المناطق المعروفة بإنتاجها الكبير من مادة «الفوسفات».

وتتبع الرحلة العجيبة التي يؤديها «الجرذون الأحمر»، نفس خطوط نقل الفوسفات، حيث تم منذ بداية القرن العشرين اكتشاف تلك المادة في الجنوب الغربي التونسي ومدت من أجلها السكك الحديدية، وتم شق جبل «الثالجة» الذي يرتفع على جوانب الجرذون الأحمر لأكثر من مائة متر من التراكمات الحجرية المخيفة. وتزداد مخاوف المسافرين في رحلات الجرذون الأحمر بمجرد أن يرفعوا رؤوسهم لمشاهدة جبال الحجارة المتراكمة على الجانبين بحيث لا تترك للقطار إلا خطا بسيطا ملتويا يمر من خلاله في وجل من أجل مواصلة الرحلة نحو محطتها الأخيرة.

والفوسفات هناك قد يكون نعمة، ولكنه كذلك قد يكون نقمة إذا عرفنا أن المنطقة كلها تعيش من تلك المادة، وأن القبائل هناك تتنازع من أجل إثبات أحقيتها التاريخية بملكية الأراضي التي تحتوي مادة الفوسفات، وتطالب نتيجة لذلك بحظوة خاصة في المعاملات، وهو السبب الذي خلف مواجهات دامية بين قبيلة «أولاد بويحيى» التي تدعي الملكية التاريخية لكل الأراضي التي توجد بها مادة الفوسفات، وقبيلة «الجريدية» نسبة إلى الجريد التونسي (توزر أساسا) التي يعتبرها أولاد بويحيى وافدة على المنطقة وتسعى على الرغم من مرور أكثر من قرن على وجودها، وهو ما يفسر الأحداث الدامية الأخيرة التي عرفتها المتلوي مؤخرا.

«الجرذون الأحمر» استعاد نشاطه يوم 27 مارس (آذار) الماضي بعد توقف دام نحو ثلاثة أشهر خلال فترة الثورة التونسية. حول استئناف النشاط، يقول عبد العزيز الطويل، مدير شركة «استغلال الجرذون الأحمر»، إنه تم تنظيم ثلاث رحلات عوضا عن ست كانت تنظم في الأسبوع، إلا أن الأحداث الأخيرة في المتلوي وقلة الإقبال السياحي، جعلا المؤسسة تتخذ قرارها بإيقاف النشاط، على آمل استئنافه خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

ويقول لطفي السعيدي من سكان آم العرائس إن كافة المناطق القريبة من سكك الجرذون الأحمر تتطلع لمجيئه، فهو حسب قوله دليل خير على السكان، فالكثير منهم لا يرونه بعيون السياح المتطلعة لأكداس الحجارة الصلدة، بل لما يمكن أن يقتنيه الزائرون من مواد محلية كالخزف والنسيج التقليدي والقليل من التمور التي تنتجها الجهة.

وتعتبر المنطقة المعروفة بـ«رقبة الثالجة» من أهم الوجهات السياحية بالجهة، التي عادة ما تدرجها وكالات الأسفار ضمن جولات حرفائها من السياح في البلاد التونسية. وهذه السلسلة من الجبال هي أيضا امتداد لجبال الفوسفات الواقعة غرب مدينة المتلوي، وقد استقر بها الإنسان الأول منذ العهد الروماني، وتوجد بها حتى الآن إلى جانب غراسات الكروم، آثار سد مائي ونقطة للماء العذب مثلت في العصور القديمة عاملا حيويا للاستقرار.

ونظرا لارتفاع صخور هذه الجبال، فإنه يصعب الوصول إليها بطريقة أخرى غير القطار، لذلك فقد تم خلال الفترة المتراوحة بين سنة 1914 وسنة 1920، حفر أربعة أنفاق تشق جبال الثالجة لعبور القطارات المحملة بالفوسفات المستخرج من مناجم الرديف وأم العرائس والمتلوي (مناطق الحوض المنجمي). وبإمكان هذا القطار خلال الحالات العادية تأمين السفر لنحو 200 سائح شخص يحملهم القطار في رحلة استكشاف لجبال الثالجة الشاهقة والمتميزة بمناظرها الخلابة وأخاديدها ومغاورها الشاهدة على بدايات استخراج الفوسفات. وتعود بداية استغلاله لأغراض سياحية إلى ثمانينات القرن الماضي. ويتكون القطار من ست عربات، منها عربة معروفة بعربة الباي، وأخرى عربة مقهى تتيح لركاب الجرذون الأحمر شراء المبردات أثناء الرحلة التي تدوم ساعتين.

وبهدف تنويع المنتوج السياحي بجهة قفصة، فقد أضحت الرحلة عبر القطار السياحي الجرذون الأحمر، ومن خلاله، الإطلالة على جبال الثالجة فقرة قارة ومحطة هامة في سلسلة تنقلات السائح بالجنوب التونسي ضمن برامج مختلف وكالات الأسفار المحلية والعالمية.

وحققت رحلات الجرذون الأحمر في السنوات الأخيرة مؤشرات إيجابية لمنتوج سياحي فريد يستهوي أعدادا كبيرة من السياح من مستعملي هذا القطار القديم الذي يوفر أثناء الرحلات خدمات كثيرة تشتمل أيضا على بث ألوان موسيقية خفيفة عند انطلاق القطار ثم مختارات من موسيقى أفلام رعاة البقر لدى الوصول إلى الجبال واختراق الدواميس.

ومنذ سنة 2008، خص هذا القطار السياحي بمشروع مهم يتمثل في تهيئة وتطوير مسلك القطار وتعهد تجهيزاته، وذلك بمبلغ مقدر بنحو 125 ألف دينار تونسي (قرابة 89 ألف دولار أميركي). وبالإمكان استغلال ما يتوافر بمنطقة المتلوي المنجمية وغيرها من المدن المنجمية الأخرى من معالم ومواقع تاريخية على غرار المتحف الوطني للمناجم والمنطقة المؤدية إلى مجموعة من المناجم تقع تحت سطح الأرض كان يستخرج منها الفوسفات وهي تكاد تندثر بمرور السنين.