تقاليد الرحى التقليدية في تونس تواجه تحدي المكيسات

وسط المتفائلين بصمودها ومتوقعي أفول نجمها

منجي زنتور داخل مكان عمله ... مع ماكينة الرحي
TT

لم يعد ظهور طرق جديدة في التعامل مع الطبيعة، واختراع آلات جديدة تتماشى ونمط الحياة المتغير، يهدد فقط الوسائل التقليدية والبدائية التي استعملها الإنسان لقضاء حاجاته، بل أصبحت الآلة الجديدة تشكل خطرا على الآلات التي سبقتها زمنيا، والمنتج الجديد بديلا لما هو أقدم منه.

وبالتالي، نرى اليوم وسائل سادت لقرون، ثم اختفت تدريجيا من الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد والمجموعات والمجتمعات. واختفت منتجات صناعية، مفسحة المجال لنوعيات جديدة أفضل كالمصباح الكهربائي المتطور العصي عن الاحتراق، الذي يهدد المصابيح التقليدية التي يفكّر أصحابها في إغلاق مصانعها بعد فترة من الزمن.

واليوم، يذكر البعض في تونس مثل «العم» عمر النجار تقاليد الرحي (أو «الجرش» - كما تعرف في بلاد الشام) بالرحى (الجاروشة) التي «تتكون من قطعتين مستديرتين من الحجر، لا يزيد عرض أكبرها على المتر ولا تقل عن 25 سم تقريبا، وكانت النساء في كل بيت يستخدمن الرحى لرحي القمح والشعير والتوابل والبقول المجفّفة وغيرها».

وشرح «العم» عمر كيف «كان الرجال ينقلون القمح من البيدر، وتتولى النساء تنظيفه وتنقيته من الحصى ومن ثم رحيه بالرحى». وأضاف «كانت تقاليد الرحي ممتعة، فغالبا ما تتقابل امرأتان على الرحى، وتستمران في الرحي لمدد طويلة ترددان خلالها أهازيج وأغان، فتضفيان على المشهد أبعادا إنسانية وفنية جميلة.. كانت لوحات ناطقة في طريقة الرحي وفي الأهازيج المرافقة لها».

وفي ما مضى، كما تابع، «كانت وكالات الأسفار توقف حافلات السياح على حواف الطرق القريبة من القرى، لكي يشاهد السياح القرويات وهن يرحين القمح والشعير وغيره، ويخبزن الخبز في الأفران التقليدية. كان إلى جانب ما سبق مشهدا سياحيا، ولكن قرى اليوم لم تعد كقرى الأمس».

الواقع أنه كان لظهور آلات الرحي العاملة بالوقود تأثير سلبي مباشر على الطريقة التقليدية. وكما أشار «العم» عمر «تركت النساء الرحى الحجرية التقليدية.. واتجه الجميع لرحي ما لديهم في الماكينة، كما يقال». ثم يضيف «في ذلك الحين، كانت هناك طوابير تقف أمام محلات الرحي، وكان كثيرون يضطرون إلى الانتظار يوما كاملا أو يومين وأحيانا أكثر، حتى يتسنى لهم رحي ما لديهم من حبوب أو بقول جافة وما شابه ذلك».

ولكن الأمر اختلف اليوم، فماكينات الرحي مهددة بالإغلاق مع زحف المعلبات، أو ما يصفها البعض بـ«المكيّسات» (بتشديد الياء ونصبها) بمعنى الأغذية المحفوظة والمغلفة بأكياس. ذلك أن أكياس الدقيق متوافرة من وزن الكيلوغرام الواحد وحتى الـ25 كلغ، وحسب الطلب. وأكياس الكسكسي والمعجّنات متوافرة حسب الأذواق والرغبة، وخبز الأفران الصناعية موجود في كل وقت ولهذا انتهى - أو كاد - الإقبال على ما كان موضة وصرعة وقمة التقدم في يوم من الأيام.

منجي زنتور، وهو عامل في محل للرحي، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «بعض الناس، ولا سيما من أهالي الأرياف، ما زالوا يحافظون على تقاليد رحي الحبوب والبقول والخضار الجافة، كالفلفل الأحمر، في ماكينات الرحي». ولم يحدد زنتور الكمية التي يقوم برحيها يوميا، موضحا «كل يوم هناك ما قسمه الله لنا». ثم شرح بأنه «لا توجد آلة واحدة لرحي جميع الأصناف، بل ثمة آلة لكل صنف.. فهذه للقمح والشعير وتلك للدرع والأخرى للفلفل الأحمر المجفف». ثم ذكر أن الزبائن يأتون عموما من المناطق القريبة، «ومع أن الإقبال تراجع كثيرا، فإن هناك من لا يزال يفضّل الطرق التقليدية. وفي الصيف هناك من يأتي بعشرة أكياس من القمح لرحيها من أجل إعداد الكسكسي والخبز والمحمّص والبركوكش (الكسكسي الخشن) والدشيشة (الشربة) في البيت».

ولفت زنتور الانتباه إلى أن «المكيسات قلصت كثيرا اعتماد الناس على الماكينة، ولكن الأفران الصناعية، التي قلصت بدورها الاعتماد على الأفران الطينية المنزلية، لا تزال تلجأ للماكينة لرحي القمح وإعداد خبز القمح لأن أغلب ما هو موجود من دقيق في السوق من الذرة». ثم أكد أن «الأفران لا تقوم بغربلة القمح وإنما تعد الخبز بالدقيق من دون تصفيته من شوائبه التي يقول البعض إنها صحية». وكشف عن وجود عدد كبير من الأفران تتعامل معهم في هذا الخصوص، لكنه امتنع مرة أخرى عن إعطاء حجم الإيرادات. ولكنه أشار إلى أن سعر رحي القلبة (القلبة 17 كلغ) هو 700 ميليم (الدينار، يساوي ألف ميليم) والدرع بـ150 ميليم للكلغ، والفلفل الجاف بـ300 ميليم للكلغ، والبسيسة (السويق) بـ300 ميلم.

من جهته، قال الحاج حمدة بن محمد الهنداوي، وهو صاحب ماكينة رحي، ويعمل في المجال منذ 11 سنة، بعدما كان قبل ذلك من عمال البناء، إنه «مرتاح» في عمله رغم رفض أبنائه العمل معه. وكغيره من أصحاب آلات الرحي يرى الحاج حمدة أن فصل الشتاء هو فترة الكساد، بينما «في الصيف يزداد الإقبال، لأن البعض يريد أن يغيّر من طريقة الحياة المعلبة والمكيسة إلى الطبيعة.. فإذا كان فلاحا يترك من القمح ما يكفيه، وإن كان موظفا اشترى من السوق أو من الفلاحين القمح وغيره للحصول على غذاء طبيعي ولو لمرة في أسبوع أو أكثر». وأردف «بعض الفلاحين يرحون الشعير للحيوانات، والبعض الآخر يرحي الفلفل المجفف، وهناك ثكنة للجيش يرحي أفرادها الفلفل عندي، وهم كل شهر أو شهرين يرحون نحو 100 كيلو من الفلفل، وكلما انتهت الكمية يعودون مرة». ثم أوضح أن «العمل في حاجة للسمعة والثقة.. وكسبنا السمعة والثقة، واليوم يأتونني من مسافات بعيدة تصل أحيانا 50 كلم، وهذه السمعة هي رأسمالي والناس كلهم يحبونني».

الحاج حمدة يعمل، هو الآخر، بمفرده. وعما إذا كان العمل مرهقا، ولا سيما عندما تكون هناك طفرة.. وبخاصة في الصيف، رد بأنه لا يضع الأكياس مباشرة في مصب الماكينة، بل يقسطها عن طريق المعلف (آنية من سعف النخيل أو الحلفاء) «وبالتالي، لا تمثل كثرة أو وزن الكيس مشكلة في العمل». ولكن رغم الرضا الذي يبديه الحاج حمدة، فهو يشكو من قيمة الإيجار، وهو مائة دينار في الشهر. ثم إنه هو يعمل طوال أيام الأسبوع باستثناء النصف الثاني من يوم الجمعة حين يتفرغ للصلاة. وهو يقول إنه لا توجد مشكلة لدى الزبائن عندما يكون المحل مغلقا «فبإمكانهم ترك ما لديهم عند جيرانه، ولو لمدة أسبوع، مطمئنين إلى أن بضاعتهم ستعود إليهم كما يرغبون».

وتحدث الحاج حمدة عن الطرق القديمة من الرحي بالرحى إلى ماكينات الوقود، وكشف عن وجود رحى يدوية في بيته ورثها عن جده، قائلا «ما زلنا نستخدمها في البيت للكميات الصغيرة، مع أننا نملك ماكينة». ثم أضاف «رحي القلبة (17 كلغ) بالرحى يستغرق ساعة أو أكثر، أما بالماكينة فلا يحتاج لأكثر من عشر دقائق فقط». واستطرد بتفاؤل ظاهر أن «الحاجة ستظل قائمة للماكينة رغم انتشار المكيسات».

في المقابل، لدى مالك بن الهاشمي الظاهري، وهو ابن صاحب ماكينة رحي ويعمل مع والده، رأي مختلف. إذ قال «كما ترى، العمل متوقف، وهذه الصنعة لا مستقبل لها». ثم يشرح قائلا «القلبة بـ200 ميليم، وإذا حصلت في يوم على 5 دنانير أو حتى أكثر فإنك في نهاية الشهر ستجد نفسك خاسرا، وتحديدا، عندما تتسلم فاتورة الكهرباء.. التي تتراوح أرقامها شهريا بين 150 و200 دينار». ويرى مالك «أن الأفضل رحي القهوة فهي لا تكلف كثيرا، أما نحن فسنغير هذه المهنة وسنستغل المكان في تجارة أخرى».