الشباب الكردي.. هوس بالدردشات ولقاءات من غير كلام على الهواء

من خلال تكنولوجيا الاتصالات الحديثة

أحد مقاعي الأنترنت في السليمانية («الشرق الأوسط»)
TT

بدا الموظف الشاب (د.ش) شاحب الوجه فعلا عندما أشار إليه زميله في العمل (توانا) وهو يشرح حاله مع السهر المتواصل الذي بات يؤثر على نشاطه اليومي في العمل، بل بدت آثاره واضحة حتى على دماغه، حيث يؤكد أن «زميله بات يشكو حاليا من ضعف الذاكرة، وهذا يؤثر كثيرا على إنتاجيته بالعمل، إلى جانب الأضرار الجسيمة على جسده». ويقول توانا إن «زميله اعتاد منذ فترة طويلة يقارب السنتين على السهر حتى ساعات الفجر كل يوم، فهو يدردش عبر حاسوبه النقال الذي استطاع أن يشتريه بالتقسيط حتى الساعة الخامسة فجر كل يوم، وينال قسطا قليلا من النوم بسبب اضطراره للحضور في دوام الدائرة عند الساعة الثامنة صباحا، ولذلك فهو يأتينا دائما شاحبا وواهنا بالكاد يستطيع أن ينجز الأعمال الموكلة إليه».

وهذا الموظف الشاب هو واحد من آلاف الشباب الذين استفادوا من توفير اللابتوب (الحاسوب النقال) بالتقسيط المريح، ومن انتشار مراكز توزيع خطوط الإنترنت في معظم مدن ومناطق كردستان، واستطاعوا أن يعقدوا صداقات عبر (الشات) والرسائل مع فتيات من مختلف أنحاء العالم، بل إنهم نجحوا في بناء علاقات غرامية مع بنات بمدن كردستان وما سيسهل ذلك من اللقاءات بينهم وتعرف بعضهم على بعض بصورة مباشرة.

وتتوزع في أربيل عدة مراكز اتصالات بالشبكة العالمية، منها شركة نوروز التي تحتكر خطوط الإنترنت الواصل إلى المنازل عبر الكابلات، أو من خلال بيع الخطوط (لاسلكية) عبر فلاشات تربط بالحاسوب النقال، وهناك مراكز أخرى مثل (تارين نيت وآريافون وريبر كويك) وأخيرا خطوط (هاي ماكس) الحديثة التي تعتبر الأسرع في كردستان.

وفي السليمانية هناك شركة «كوران نيت» التي تستحوذ على المساحة ألأكبر من المشتركين وتوزع خطوطها على أكثر من عشرين مركزا في المدينة، إلى جانب خطوط (بروسك وتيشك وريبر). وعموما فإن المشتركين يعانون من مشكلة كبيرة بسبب ضعف الخطوط، فأصحاب تلك الشركات والمراكز يحملون خطوطهم ما لا طاقة لها به، فبهدف تحقيق الربح السريع كعادة تجار هذا الزمن، فإنهم لا يترددون في بيع أكبر عدد ممكن من الخطوط حتى لو كان على حساب السرعة، فمركز واحد في مدينة السليمانية على سبيل المثال يوزع خطوطه على أكثر من سبعين ألف مشترك، في حين أن الطاقة الاستيعابية أقل بكثير من هذا العدد الهائل، لذلك تواجه الشركات والمراكز تذمرا متواصلا من المشتركين.

يزدحم مركز «باريس» للإنترنت في مركز مدينة السليمانية بشبابها من الجنسين، ووفر المركز خصوصية تامة من حيث إعداد كابينات شبه مغلقة، نصبت فيها الكاميرات والسماعات لتسهيل الاتصالات عبر المحادثات (شات)، وبحسب مدير المركز هريم عبد الله فإن معظم العملاء هم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 - 30 سنة، وأحيانا تأتي النساء أيضا إلى المركز ويتحادثن.

وهذا المركز الذي يستلم بثه من شركة «كوران نيت» بحجم خمسة ميغابايت يوزعها على 20 حاسوبا منصوبا، ويقدم خدماته اليومية من الساعة الثامنة صباحا حتى الساعة الحادية عشرة ليلا، وهو مكتظ دائما بالشباب.

وقياسا إلى الخطوط التي توفرها بعض الشركات بالفلاشات المستخدمة بأجهزة الحاسوب النقال، فإن خطوط هذا المركز أسرع، لذلك يزدحم بالشباب الذين يعانون من مشكلة ضعف خطوط الاتصال في منازلهم أو حواسيبهم الشخصية.

وكما يقول هاوكار (23) سنة «رغم أن الأريح لنا الاتصال عبر الحواسيب الشخصية، ولكن ضعف الخطوط يضطرنا إلى استخدام هذه المراكز، فالشركات لا ترحمنا، وغالبا ما تتعرض الخطوط إلى القطع والتوقف لساعات مما يفسد علينا المحادثات».

لاحظت «الشرق الأوسط» وجود عدد كبير من الشباب الصم والبكم وهم ينتظرون أدوارهم في طوابير مستخدمي الإنترنت بهذا المركز، وعندما سألنا هريم عنهم قال «هم يأتوننا يوميا، وعددهم كبير جدا، ويستخدمون لغة الإشارة في التواصل مع أقرانهم بالدول الأخرى، فلغة الإشارة هي لغة عالمية كما تعلمون، عليه فهم يستطيعون أن يكسبوا الصداقات أفضل من الناس العاديين بسبب زوال حاجز اللغة».

جراخان.. إحدى الفتيات التي تتحادث عبر الشات مع صديقاتها وأصدقائها وتقول «عادة نبدأ بالمحادثة بعد منتصف الليل حيث الهدوء يعم البيت، وغالبا ما نتواصل إلى ساعات متأخرة قد تمتد إلى الفجر، خصوصا إذا كان اليوم التالي عطلة رسمية أو مدرسية». وتكشف هذه الفتاة أنها «عقدت صداقات مع عدد كبير من الصديقات والأصدقاء خارج كردستان» وتأسف لعدم إجادتها أي لغة أخرى غير الكردية، وتؤكد «لو كنت أعرف اللغة العربية أو الإنجليزية، لعقدت الصداقات مع العديد من الأشخاص في العالم، ولذلك فإن محادثاتي منحصرة حاليا بالكرد الموجودين في دول العالم، وكذلك أصدقاء أتعرف عليهم من داخل كردستان في محافظاتها ومدنها».

(ب. ص) شاب في العشرين من عمره عاطل عن العمل يقضي نهاره نائما ويسهر الليالي حتى الصباح، وطالما تتذمر والدته من هذا الأسلوب الغريب في العيش، وكما يقول هو «أنا أعلم أنني أزعج والدتي وأسرتي بهذا الأسلوب المتكرر، ولكن ماذا أفعل، ليس لي شغل ولا أي عمل أنشغل به، فأنام من الصباح إلى المساء، ثم أجلس إلى التلفزيون إلى حدود منتصف الليل، عندها أبدأ بفتح الخطوط التي تكون عادة في الأوقات المتأخرة من الليل أسرع قياسا إلى فترات الازدحام عند المساء، وأبدأ بالمحادثة مع صديقاتي وأصدقائي إلى حين طلوع الشمس». وبسؤاله عن وضع أصدقائه وصديقاته الذين يقابلونه بالجانب الآخر على الجات يقول «أولا هناك فارق الوقت بيننا وبين بعض أصدقائي ممن يعيشون في الدول الأوروبية، ثم إن بعضهم مثلي عاطلون ولا التزام لهم بالوظيفة أو العمل، وأنا أبحث عن مثل هؤلاء لأتواصل معهم».

ويرى الباحث الاجتماعي يوسف عثمان أن «الأسباب الرئيسية لإدمان الشباب على الإنترنت تعود إلى مشكلة حرمانهم الجنسي» ويستند الباحث إلى دراسة علمية تظهر أن «نسبة 85 في المائة من الشباب الذين يتصفحون مواقع الإنترنت يزورون مواقع جنسية، بينهم نسبة 2 في المائة يبحثون عن مواقع العنف الجنسي، و3 في المائة عن مواقع ممارسات الشذوذ الجنسي». ويقول عثمان في اتصال مع «الشرق الأوسط» إن «الدراسات تظهر أن الشباب المدمنون على الإنترنت يكونون عدوانيين عادة، وينزوون بأنفسهم من المشاركة في الفعاليات والنشاطات الاجتماعية، ويصابون أخيرا بداء الهوس، ولا يستطيعون بالتالي السيطرة على تصرفاتهم» ويضيف «في معظم البلدان المتقدمة وضعت روادع للإدمان على الإنترنت، حيث إن بعض الدول تمنع استخدام الشباب بين السن 14 - 25 من تصفح الإنترنت لأكثر من أربع ساعات، وبذلك نحن في مجتمعاتنا نحتاج إلى توعية الشباب سواء من خلال المدارس أو من خلال وسائل الإعلام بمضار هذا الهوس».

ويشير الباحث الاجتماعي إلى أنه «في مجتمعاتنا يعاني الشباب بصورة عامة من الكبت والحرمان الجنسي، وبمقابل ما تقدمه المواقع الجنسية من إغراءات يمكن الحصول عليها بنقرة واحدة، أو ما توفره رسائل الاتصال ووسائل الاتصال المباشرة بالصوت والصورة، من شأن كل ذلك أن يسهم في إدمان الشباب على الإنترنت، خصوصا أن وسائل الاتصالات التكنولوجية باتت رخيصة جدا ومتوفرة أمام الجميع من أجهزة الإنترنت والجوال وغيرها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار حرمان معظم شباب هذا العصر من تصريف الطاقة الجنسية لديهم، فيمكننا أن نحدد أحد أهم العوامل والأسباب الرئيسية بالجانب الجنسي، أضف إلى ذلك أن العائلة عادة ما توفر السبل أمام الشباب للإدمان، حيث إن معظم العائلات توفر غرف خاصة ومنعزلة لأفرادها من الشباب وحتى الشابات مما يسهل التواصل مع الجنس الآخر». ويقول «تظهر الدراسات العلمية أن العوائل التي تستخدم جهاز التقاط بث فضائي واحد في صالة أو غرفة واحدة ويجتمع حوله جميع أفراد الأسرة، تقطع بذلك أي فرصة أمام الشباب من التفرج على القنوات الإباحية، على عكس الشباب الذين تتوفر لهم خصوصية كاملة من حيث توفير مثل هذه الأجهزة أمامهم».

ويشير الباحث يوسف عثمان إلى النتائج السلبية لهذا الهوس بالإنترنت على الشباب ويقول «الساعات المسموحة لتصفح الشباب للإنترنت علميا هي أربع ساعات فقط، لمن هم من الفئات العمرية إلى حد 30 سنة، ومن اللافت أن دراسة بريطانية أجريت لتحديد مضار هذا الهوس الشبابي بالإنترنت وشاركت أنا في جزء منها، أظهرت أن من يستخدمون الإنترنت لأكثر من 6 ساعات يتعرضون لضعف جنسي، فتبين الدراسة أن نسبة كبيرة ممن شملتهم الدراسة أصبحوا يستخدمون المنشطات الجنسية، وبذلك تعرض معظمهم إلى مشكلات زوجية داخل الأسرة، ومن المضار أيضا هو تأثير الإدمان على الدماغ الذي يتعب من جراء إطالة مدة التركيز، إلى جانب تعرض الفقرات لدى المستخدم لأضرار جسيمة جراء الجلوس الطويل. ولتقليل هذه الأضرار يرى الباحث أن «الرياضة تحتل المقام الأول في مجال مكافحة هذا الهوس والإدمان غير الطبيعي، كما أن زيادة النشاطات الاجتماعية والحرص على إشراك الشباب في المناسبات الاجتماعية وخصوصا العائلية، قد تبعد الشاب عن المحيط الذي يكون مدمنا أو معتادا عليه، وأقصد إدمانه وهوسه بالإنترنت، وعلى هذا الأساس يجب على الأسر أن تنمي وتشجع لدى أبنائها الهوايات الفنية التي تغنيه عن اللجوء إلى الإنترنت».

وشدد في الختام على «إدامة الرقابة الأسرية، ولكن ليس بمعنى التجسس على أفراد الأسرة، بل مراقبة تحركاتهم ونشاطاتهم اليومية، مع تشديد الحكومات على التوعية من خلال المدارس ووسائل الإعلام، لأن هذا الإدمان المرضي سيؤثر بطبيعة الحال على إنتاجية المجتمع، ويعرض شريحة أساسية ورائدة من المجتمع إلى الأمراض والمخاطر الجسيمة».