رحلة مطبعة تونسية من حروف الرّصاص إلى إبداعات الحاسوب

إبراهيم غنام: أعطيت «الكونكورد» عمري وأعطتني استقرارا ماليا أسهم في بناء أسرتي

مطبعة الكونكورد تعتبر واحدة من أقدم المطابع في العالم.. لكنها من المطابع المخضرمة التي مرّت بمراحل تعتبر بدايات بعضها أشبه ما يكون بأولى المطابع التي عرفها الإنسان
TT

لا تعدّ مطبعة الكونكورد، في العاصمة التونسية تونس، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى النصف الثاني من القرن الماضي واحدة من أقدم المطابع في العالم، لكنها من المطابع المخضرمة التي مرّت بمراحل تعتبر بدايات بعضها أشبه ما يكون بأولى المطابع التي عرفها الإنسان منذ توصل الألماني يوهانس غوتنبرغ بين 1436 و1440 إلى ابتكار الطباعة.

إبراهيم غنام، صاحب مطبعة الكونكورد، قال لـ«الشرق الأوسط» عندما التقيناه في تونس إن «اختراع المطبعة كان فتحا عظيما على مستوى الإنتاج المعرفي، عندما انتشرت المطابع في العالم وكانت البداية في أوروبا، مثل روما عام 1465 وباريس 1470 وبرشلونة 1471 وبريطانيا 1474، مع العلم أن أول كتاب طبع باللغة العربية عام 1486».

وتابع غنام: «لقد بلغ عدد الكتب التي طبعت في تركيا العثمانية عام 1495 تسعة عشر كتابا، مع أن المطابع لم تدخل أراضي الدولة العثمانية رسميا سوى عام 1551 في عهد سليمان القانوني وفق أدق المصادر.. أما المطابع باللغة العربية في أراضي الدولة التي كانت تسيطر على قسم كبير من العالم العربي فلم تظهر سوى عام 1727».

ثم يشرح غنام العلاقة بين تونس والطباعة، فيقول إن من أقدم أنواع الطباعة التي واكبتها مطبعة الكونكورد العتيقة في تونس «الطباعة الحروفية.. وطريقة الطباعة هي بصف الأحرف داخل إطار معدني، ويسمى عمالها بـ(المصففين) الذين يلتقطون الأحرف من أدراج عديدة كل منها مخصّص لحرف. أو بواسطة القوالب المحفورة ضوئيا (قوالب الزنك) التي تحفر بالأحماض بعد تعريضها لقلم ضوئي سالب. ثم توسعت الطباعة البارزة في النشر الصحافي ودخل عليها التصوير الضوئي. وقسمت لثلاثة أنواع، هي: مطابع البرميل التي تستخدم للنشرات الإعلانية، والمطابع ذات الاسطوانة والحوض المسطح وتطبع جانبي الورقة في آن واحد وتستخدم لطباعة الكتب، والمطابع الدوارة وتستعمل لطباعة الصحف والمجلات».

ثم قال: «طباعة الأوفست طريقتها قائمة على عدم امتزاج المواد الشمعية بالماء. ومطابع الأوفست هي مطابع دوارة، تثبت على اسطوانتها ألواح الطباعة وتضغط أثناء الدوران على وسائد مبللة بالماء، ووظيفة الماء هنا هي منع الحبر الشمعي من الالتصاق بالفراغات المحيطة بالرسوم، وتقوم اسطوانة دوارة بمد الحبر على اسطوانة ألواح الطباعة الدوارة. وهذه بدورها تقوم بإسقاط الأشكال على اسطوانة مطاطية وأثناء الدوران تنقل الرسوم على الورق، ويجري طبع لون أو أكثر حتى أربعة ألوان.. ويتم طبع كل لون على حدة»، مضيفا «بعد طبع اللون الأول تشف الأوراق ثم يطبع اللون الثاني فالثالث والرابع.. ولقد أبدلت طباعة الأوفست الحجرية بألواح معدنية». وتابع «يجري تجهيز الطباعة بما يعرف بالتصوير الليثوغرافي وهي نسخ سالبة للشكل المراد طبعه ثم تثبت على لوح معدني حساس للضوء، ثم تتعرض للإضاءة ويتأثر اللوح حسب تدريجات الإضاءة في النيغاتيف (النسخ السالبة) ثم تظهر وتطلى بمادة شمعية، ثم تبلل بالماء المعالج مع الصمغ وتصبح المناطق الشمعية هي القابلة للتحبير أثناء الطباعة. وتستخدم طباعة الأوفست اليوم في العديد من المجالات وهي الأوسع انتشارا وتستخدم في طباعة الكتب والجرائد والمجلات».

وعن دور المطابع واتساع نطاق خدماتها، قال غنام: «المطبعة اليوم تقوم بطباعة كل شيء.. من دعوات الأفراح إلى العلامات التجارية على أغلفة البضائع المختلفة وحتى الأوراق الإدارية الرسمية والكتب». وعن نشاط مطبعته قال: «.. الكثير من الشركات والدواوين تطبع نثرياتها عندنا، وبالنسبة لنا كل ما يطبع نطبعه». وأردف: «الأفراح لا تغطي الشيء الكثير من المصاريف ولا تمثل حيزا مهما في مجال الإيرادات فهي موسمية وتستمر غالبا لمدة 60 يوما في الصيف، وأحيانا لا يتعدى عدد بطاقات الدعوة المائتي دعوة، إضافة لوجود عدد كبير من المطابع في السوق».

وعن تحديات المهنة، قال: «المستثمر في مجال الطباعة، ما لم يطور من إمكانياته، يبقى من مخلفات التطور.. والذي لا يتقدم فإنه بالضرورة يتأخر».

وعما وصلت إليه مطبعة الكونكورد، التي تعد من أقدم المطابع في تونس، ردد باللهجة التونسية «الحمد لله سالكة». ثم وضع نفسه في مقام السائل «المستهلك ماذا يريد؟ لا يمكن شراء ماكينة بخمسمائة ألف دينار لتطبع كراريس بدينارين». لكنه أشار إلى أن لدى المطبعة زبائن يطبعون بملايين النسخ «.. تصل بعض المطبوعات إلى مليون نسخة ويزيد».

إبراهيم غنام راض عن عمله، كاشفا عن حصوله على قرض من البنك في وقت ما وتم استرداده، كذلك فإنه راض عن الإيرادات وراض عن عمله وراض عن عماله الذين لا يتجاوز راتب أقدم عامل لديه الـ400 دينار، ويردد «المال ليس كل شيء.. الفلوس تأتي بها الخدمة».

من جهة ثانية، يعترف غنام بارتكابه أخطاء جسيمة في مراحل العمل المختلفة، ولا سيما أثناء العمل بحروف الرصاص التي يثير ذكرها الاشمئزاز عنده «الأخطاء كانت كثيرة. لقد دخلنا الميدان من دون دراية كافية، وهو ما عطل الأمور. ولكننا تعلمنا من خلال التجربة والخطأ. ولذلك كانت الأخطاء بالأكياس (كناية عن كثرتها) وكنا نصحح الأخطاء على حسابنا وما كان زبائننا متسامحين ولا حليمين، فكنا نتحمل غضبهم ونكتم غيظنا.. ولكن حتى اليوم تبقى الأخطاء واردة».

فترة الطباعة باستعمال طوابع الرصاص، حسب إبراهيم غنام، «وسخ صافٍ (أي كلها أوساخ).. فكل سطر كان يحتاج ليوم كامل». ومن المفارقات ألا يدخل الحاسوب للمطبعة سوى في تسعينات القرن الماضي.

وهنا أضاف: «الحروف الرصاصية كلها مساوئ، وكانت قد حلت مشكلة ظلت قائمة لعدة قرون.. لكنها كانت حلا مؤقتا». ولبرهة بدا كما لو كان يروي مشكلة نفسية لطبيب بالتفصيل «حرف بجانب حرف، استدعاء ساعة من الزمن لتشكيل كلمة. نصوص مكتوبة باليد تحوّل إلى حروف. كتب بالحروف، أشياء كثيرة مكلفة ومقلقة وأحيانا لا تظهر الحروف. لم يكن هناك عمل كثير كما هو الحال اليوم. كانت المهمة تأخذ جهدا وكانت الجودة سيئة. بعض الحروف لا تظهر. مضى زمن.. قبل أن نرتاح، فمنذ التسعينات الأمر جيد، فالحاسوب (الكومبيوتر) يحل المشاكل، ونحن الآن نضع المعلومات في أقراص مرصوصة (سي دي) حتى لا تضيع إذا ما حصل مشكل في الحاسوب».

أما عن التعاطي مع الزبائن فشعار غنام هو «لكل جودة ثمنها»، لكن المشكلة معهم أنهم يريدون ما يريدون إنجازه «توه.. توه.». - أي الآن.. الآن.. ولا سيما الزبائن القدامى الذين يترددون على الكونكورد، منذ عدة عقود. ولأن الكونكورد مطبعة قديمة فإن لها رصيدها من الزبائن صار لها اسم في السوق، ولذا كما يقول «لا نحتاج للدعاية لأننا موجودون في السوق منذ زمن.. الجديد ومن له سلعة جديدة يلجأ للدعاية، أما نحن فلنا اسمنا وموقعنا».

وفي كلمة أخيرة أجاب إبراهيم غنام عن سؤال عما أعطاه للكونكورد وماذا أعطته قائلا: «أعطيتها عمري، وأعطتني كل شيء؛ أعطتني الاستقرار المالي والأسرة، القناعة كنز لا يفنى، وأمنيتي الآن الراحة وأن يحل ابني مكاني».