من أجل لقمة العيش.. نساء تونس يدخلن مجال المهن الشاقة

بينها البناء والنجارة والحدادة وحفر الآبار

سهير.. أثناء عملها في تركيب المطابخ («الشرق الأوسط»)
TT

تتزايد أعداد النساء التونسيات العاملات في ساحات المهن الشاقة التي كانت حكرا على الرجال، ومنها البناء والنجارة والحدادة وحفر الآبار، فضلا عن العاملات في البلديات في مجال التنظيف ونقل القمامة، والعمل في المصانع بمختلف تخصّصاتها.

لم يكن خروج التونسيات، أو أغلبهن على الأقل، لتعويض النقص العددي للرجال الذين سقطوا في حرب كونية، كما كانت الحال في أوروبا بعد الحربين العالميتين الأولى (1914 - 1919) والثانية (1938 - 1945)، طبعا، ولا لتحقيق الذات والاستقلال المالي، بل هي الحاجة والحاجة وحدها. فبعيدا عن التفسيرات الأيديولوجية، فإن ما يدفع المرأة التونسية للعمل في المجالات الشاقة، كما قال الباحث في علم الاجتماع زيد التواتي لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء معه «ليس البحث عن التحرّر الاجتماعي في حاويات الزبالة، أو غبار النجارة، أو مع خلطة الإسمنت التي تبدو آثارها على ملابسها بل وعلى وجهها، وإنما الحاجة».

وتابع «.. المرأة التونسية، أو إن شئت كثيرات منهن يتجاهلن متطلبات أنوثتهن من أجل توفير لقمة العيش لأسرتها. كثيرات منهن يردن التحرر من الغبار ومن الإسمنت ومن القمامة ويرين أن ذلك ممكن بتوافر الحد الأدنى من العيش الكريم. إن السعادة التي يجدها الإنسان في العمل وفق أيمرسون، لا تشمل كثيرات من العاملات في المهن الشاقة».

وأوضح التواتي «لا يوجد في الواقع وصف يشمل جميع العاملات، فنحن في حاجة إلى الطبيبة وإلى المهندسة وإلى الممرضة والأستاذة الجامعية، ولكن تلك التي تضطر للعمل فوق طاقتها تستحق من المجتمع إلى بعض التعاطف».

ولكن ماذا تقول النساء العاملات في هذه المهن، واللواتي طالما تكلّم كثيرون باسمهن، بصورة نمطية، أو بدفعهن دفعا للعمل بصفة قهرية تحت ضغط الظروف الاجتماعية؟ والسؤال الذي يطرحه التواتي «هل يمكن أن تكون المرأة جوهرة مكنونة، وفي الوقت نفسه الوقت مفيدة للمجتمع من دون مماحكات وإسقاطات تسببت في عذابات كثيرة للمرأة وللرجل على حد سواء؟».

نادية الشرايطي (55 سنة) قالت عندما التقيناها «أعمل مدلّكة للنساء في حمام بخاري، ليس حبا بهذا العمل، ولكن من أجل توفير لقمة العيش لأسرتي». وأردفت «لقد اختلفت مع زوجي لأسباب لا تتعلق بالعمل، ولم أكن أعمل قبل الطلاق، ولكن تصرفه في ميراث والده أغضبني وقررت الانفصال عنه». وعما إذا كانت نادمة، أجابت «لست نادمة، ولكنني طبعا أشعر بالضيق وأنا أمضي الساعات أزيل الأوساخ من ظهور النساء، فالتدليك الذي أقوم به داخل الساونا وليس خارجه كما هو حال التدليك التخصصي». وعن أفراد عائلتها، أوضحت نادية أنها أم لأبناء كبار، لكنهم كما قالت «كل مهتم بنفسه، ويطمع في الدنانير القليلة التي أحصل عليها من الحمام».

وإذا كانت نادية تعمل مدلّكة - أو طيّابة، أو محرزية، باللهجة التونسية -، فإن سوسن (45 سنة) تعمل في مناولة البنائين، إذ تعمل في ورش خلط الرمل مع الإسمنت، ويسمى في اللهجة التونسية «البغلي»، وإذا أضيف إليه الحصى وصب على فرش «الأسقف» أو سواري الحديد «الأعمدة» يسمى «اسمنت مسلح». وروت سوسن قصتها مع «البغلي» قائلة «لقد توفي زوجي وأنا في عز شبابي وتخلّى عني أهله. ولما لم أجد أي مساعدة، بحثت عن عمل يتناسب مع قدراتي.. وبعدما أغلقت كل الأبواب في وجهي، توجهت إلى مقاول طالبة العمل كمناولة للطوب (الآجر) والإسمنت، ولم يكن ذلك سوى لاستثارة شفقته لعله يساعدني ماديا. ولكنني فوجئت به يوافق، وهكذا منذ عام 2004 وأنا عاملة بناء».

وعن ولديها، وكيف اهتمت ولا تزال تهتم بهما، قالت «الآن هما في المدرسة، ولكن عندما كانا صغيرين كنت أربطهما وأغلق عليهما الباب إلى أن أعود». وعن المصاعب التي لاقتها في تلك الفترة «كنت أعود منهارة القوى، وأتماسك من أجل طبخ طعام ولدي في الليل وترك الطعام في متناولهما عند غيابي». ثم قالت «كنت عندما أعود من العمل وأطبخ الطعام أستلقي على الفراش ولا أقوم سوى الفجر للذهاب للعمل».

مما يذكر، أن من المفارقات التي سجلتها «الشرق الأوسط»، أنه ليس هناك امرأة متزوجة من بين النساء العاملات في المهن الشاقة، ذلك أن أغلبهن إما مطلقات أو أرامل أو عازبات، ومن بين المطلقات اللواتي تحدثن إلى «الشرق الأوسط» سهير الضيف (27 سنة)، التي تعمل في شركة للنجارة، وبالتالي الأثاث. ومهمتها نقل البضائع مع زملائها والتطواف بجهات تونس المختلفة، ولا تنتهي مهمة سهير عند تسويق الصنعة، بل إنزال البضائع وتركيبها داخل المنازل والمطابخ وغيرها.

وخلال حوار معها، قالت سهير، التي تسكن بمفردها في مدينة سوسة بينما منزل الأسرة في منطقة السبيخة بمدينة بالقيروان، إنها عملت في عدة مهن. وأردفت «قبل امتهان النجارة كنت أعمل في مصنع الكابل (الأسلاك الكهربائية) في سوسة، ولقد اضطررت للعمل لمساعدة الأسرة المكونة من والدي ووالدتي وأربع بنات وولد صغير». واليوم، تزور سهير أهلها كما تقول من حين لآخر «عندما أقبض راتبي أذهب إلى البيت، وأنا في هذا العمل منذ كان عمري 20 سنة». لكنها، كما أكّدت تحب عملها «..أنا بطبعي قادرة على تحمل الدهك (الأعمال الشاقة) والتعب، وكل ذلك من أجل الحصول على المال لمساعدة أسرتي». ثم استطردت «أتنقل بحكم ظروف العمل، أحيانا، في شاحنة كبيرة تابعة للشركة من مكان إلى آخر.. أذهب إلى الجنوب وإلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، فحيثما يتجه الكميون (الشاحنة) أذهب معها». ولكن ماذا عن المبيت؟ أجابت «المبيت دائما في سوسة حيث أقيم. نحن نخرج منذ الفجر ولا نعود سوى في المساء وأحيانا في أوقات متأخرة». وهي على الرغم من أن راتبها ضئيل نسبيا (500 دينار تونسي) فإنها تحلم بأن تبني منزلا لأسرتها، وتأسيس مشروع صغير.