البرنس التونسي.. لباس صحراوي وشتوي عريق مهدد بالاندثار

5 كيلوغرامات من الوبر تلزم لصناعته وثمنه يتراوح بين 500 و700 دولار

البرنس الوبري التونسي.. صديق الشتاء البارد تحول بسبب ارتفاع تكلفته إلى هدية قيمة («الشرق الأوسط»)
TT

ليس هناك ما هو أفضل من الارتماء في أحضان برنس وبري إبان أيام الشتاء البارد، كتلك التي خيمت على تونس مؤخرا. فالثلوج التي تساقطت على معظم المناطق الجبلية ووصلت آثارها حتى إلى المناطق الصحراوية، مثل مدينة مطماطة (الجنوب التونسي)، جعلت العائلات التونسية تستنجد بمعظم الملابس المنسوجة مثل البرنس و«القشابية» (لباس رجالي في أعالي الجبال) في محاولة لعزل البرد القارس عن الأجساد.

للبرنس الوبري، في الواقع، سحر ودفء خاصان في المناطق الصحراوية حيث لا تزال الأجيال تتوارثه جيلا بعد جيل. وبالتالي، غدا يمثّل صناعة لها جذورها الضاربة في عمق الحياة التونسية على الرغم من الصعوبات الكبرى التي ترافق عملية صناعته.

وتحرص نساء البادية التونسية على صناعة البرنس الوبري وتعتز وتفتخر بما تسميه «كنز الأجداد». وحقا، لا تخرج هذه الصناعة عن واقع البادية الصحراوية، ذلك الوبر يجمع من المخلول - أو الفصيل - أي صغير الناقة، الذي بلغ الحول أو الحولين. وعن هذه العملية تقول حفصية بلعيد، من منطقة حزوة بالجنوب التونسي، لـ«الشرق الأوسط»، شارحة إن «الوبر يستخلص بالأساس من (العقيقة) التي تقتطع من المخلول. وتعمد النسوة إلى تنقية (العقيقة) من (السبيب)، أي الشعر الأحرش أو الخشن والقاسي، الذي لا يصلح لصناعة البرانس بل يؤثر على مظهره الخارجي، وذلك في محاولة للحصول على الوبر الرطب الناعم الذي تغسله النساء، ثم تخلطه جيدا بواسطة (القرداش) - آلة محلية معروفة بشمال أفريقيا لمعالجة خيوط الوبر والصوف - لتتداخل الألوان وتمتزج».

وتابعت حفصية «المرحلة التالية تتمثل في غزل الوبر كي يتحول إلى خيوط جاهزة للاستغلال كنسيج لين يطبع البرنس بلينه. وتتطلب عملية تجهيز الوبر لوحده قرابة الشهر، وهي المدة نفسها تقريبا التي تمضيها المرأة الصحراوية في نسج البرنس وإخراجه في أحسن مظهر». واستطردت «ولا تقل الكمية الضرورية لصناعة البرنس الوبري عن 5 كلغ للبرنس الرجالي الواحد».

ثم قالت حفصية لـ«الشرق الأوسط»، بشيء من الضيق الملحوظ، إن «هذه الصناعة العريقة غدت مهددة بالاندثار، بسبب ندرة الوبر وتراجع كمياته بين عام وآخر. وفي موازاة قلة الوبر ارتفعت بطبيعة الحال أسعاره، إذ لا يقلّ سعر الكيلوغرام الواحد من الوبر قبل تنظيفه عن 15 دينارا تونسيا (قرابة 10 دولارات أميركية)، وإذا ما تذكّرنا أن البرنس الوبري الواحد يتطلب 5 كلغ من الوبر، فإن تكلفة البرنس الواحد من ناحية الوبر فقط لا تقل عن 75 دينارا تونسيا (نحو 54 دولارا)، ناهيك عن تكلفة بقية المراحل الضرورية لصناعته».

من جهة أخرى، قالت سيدة مسعودة إن «النسوة تعلّمن الصنعة من أمهاتهن، وعادة ما يقع تعليمهن هذه الصنعة منذ الصغر على شكل لعبة طفولية تمضي بها الفتيات الوقت، لكنها سرعان ما تصبح هواية محبوبة للنفس».

وأضافت «صناعة البرنس الوبري، وربما بقية المنسوجات، تتطلب قدرا كبيرا من الصبر إلى أن تتوصل الفتاة إلى تعلم مختلف مراحل الصنعة من دون أن تكبو في أول مرحلة».

ولا تنتهي عملية صناعة البرنس الوبري عند مرحلة النسج، بل تتجاوزها إلى مرحلة خياطة البرنس، وهي آخر المراحل في تلك الصناعة. وهذه المرحلة تحتاج بدورها إلى قدر كبير من التجربة والخبرة حتى يستقيم عود البرنس ولا يخرج بهنات لا يمكن إصلاحها.

وعن هذه المرحلة، شرح لنا الناصر بن سلامة، المتخصص الوحيد في خياطة البرنس الوبري في مدينة حزوة، أنه تعلم هذه الصنعة منذ عام 1984. وأضاف «عملية تركيب ما يعرف في البادية بـ(القلموزة) أو الطربوش في مناطق أخرى، تعد أساسية قبل قياس البرنس الوبري على صاحبه. ومن بعد ذلك يسعى الخياط (المختص بالبرنس) إلى تفصيل المنسوج وحياكة الصدرة (الجهة الأمامية المقابلة للصدر) وتزيينها حسب ذوق صاحب البرنس قبل أن يسلّم إليه في شكله النهائي للارتداء».

وأمام العناء الذي تتكبّده النسوة اللواتي يعملن في صناعة البرنس الوبري، لا عزاء لهن إلا عند اتخاذ القرار ببيعه، فالبرنس الواحد تتراوح أسعار بيعه بين 700 و900 دينار تونسي (بين نحو 500 و700 دولار) وهو ما يهون قليلا من تلك المتاعب، وينسيهن إلى حين المشقّة البالغة في صناعته. ولعل ارتفاع التكلفة قد زاد من أهمية البرنس الوبري هذه الأيام، إذ إن بعض الأعيان والأثرياء باتوا يرون فيه «عنوان» طبقة اجتماعية مرموقة، وصار يعتبَر هدية فاخرة يقدمها بعض التونسيين لأصدقائهم كهدايا في المناسبات والأعياد وهي نموذج للهدية التي لا ترَد.