«خان الإفرنج» بصيدا يتحول بعد مرور 400 سنة على بنائه إلى مركز ثقافي

بناه الأمير فخر الدين المعني وشكل على مدى قرون مساحة لقاء بين الشرق والغرب

أمسية موسيقية داخل خان الإفرنج
TT

هو فن معماري إسلامي تم الإعلان، منذ عشر سنوات، أنه سيصبح مركزا لبنانيا - فرنسيا للتراث والثقافة الأوروبية المتوسطية العربية، ليكون منطلقا عمليا للحوار والثقافة الأوروبية المتوسطية وتفعيل شراكتها، كتعزيز للتواصل الثقافي والتاريخي بين لبنان وفرنسا.

إنه «خان الإفرنج» الذي وصفه سفير فرنسا لدى الباب العالي لوران دارفيو عام 1635 بأنه «خان كبير مربع الشكل يبلغ عرضه ستين قدما، وعمقه عشرين قدما يتوسطه نبع ماء، بني من حجر مقصوب، سقفه مسطح، في طبقته السفلى محال كبيرة منظمة تطل أبوابها على ردهة مقبية، تدخل منها الجمال والبغال التي تنقل قوافل التجار».

وتقول تهاني سنتينا مشرفة من قبل مؤسسة «الحريري»، في حوار مع «الشرق الأوسط»: «بنى الأمير فخر الدين المعني الثاني هذا الخان عام 1610م من الحجارة الرملية، ليكون مسكنا لنسائه، بعدها اتخذه الفرنسيون كمركز تجاري لهم، وهو يتألف من طبقتين و24 غرفة وقاعات كبيرة، تدخله من بوابتين ضخمتين معقودتين بأحجار ضخمة، الأولى مطلة على الميناء والأخرى مشرفة على ساحة باب السراي، حيث تقوم قصور آل معن».

عرف «خان الإفرنج» كمركز للتجارة مع فرنسا، وكذلك كمقر لإقامة التجار الفرنسيين، خاصة القادمين من مدينة مرسيليا، الذين كانوا يحملون سفنهم بالبضائع لينقلوها عبر طريق الحرير إلى أسواق الشرق الأقصى، ويعودون محملين بما تنتجه هذه الأسواق لبيعها في القارة الأوروبية.

أخلي «خان الفرنساوي» كما تطلق عليه دائرة المعارف الإسلامية من التجار الفرنسيين عام 1791 خلال ولاية أحمد باشا الجزار على صيدا، ليستعمل بعد ذلك كثكنة عسكرية عام 1798 خلال حملة نابليون على مصر، بعدها سمح للتجار الفرنسيين بالعودة إليه عام 1802.

لمسات واضحة تركها التجار الفرنسيون في طابقه الأرضي، من خلال تقسيمهم الردهات الكبيرة الواسعة والمضيئة إلى عدة أقسام، منها ما هو للبيع والشراء، ومنها ما هو مهيأ للسكن وآخر للتخزين.

عند دخولك الخان يلفتك سلمان حجريان يقودان إلى السطوح، حيث كان التجار يصعدون للتنزه والترفيه ورؤية البحر واستنشاق الهواء، من دون أن يخرجوا من الخان. أما على جوانب الساحة الكبيرة فتنتشر أروقة مسقوفة ومعقودة تطل عليها عدة غرف، تم تشييدها على الطراز التاوسكاني كدليل على النهضة العمرانية التي شهدتها صيدا في عهد الأمير فخر الدين، فضلا عن فنون البناء التي تميز الخان.

شهرة الخان لم تقتصر على التجار قديما، بل شملت أيضا استقبال وفود «الفرنجة» الزائرة من توسكانا في إيطاليا وفرنسا وغيرهما، إضافة إلى استخدامه كإسطبل لخيل كبار الوافدين والتجار، وكمخزن كبير للبضائع، ولا سيما في الطابق السفلي منه. وردا على سؤال تجيب سنتينا «يتألف الخان من ثلاثة أقسام هي منزل القنصل الفرنسي، وسمي البيت القنصلي، وقد تحول إلى مستشفى ثم إلى مدرسة، والخان الكبير المستطيل الشكل تقام فيه معارض تجارية، وخان صغير يقع جنوب غربي الخان الكبير ويتصل ببيت القنصل وكان فيه آبار عدة».

تملكت الدولة الفرنسية «خان الإفرنج»، فاستعمل أولا كمقر للقنصل الفرنسي في صيدا، ثم أصبح ثكنة أثناء حملة بونابرت على مصر، ثم ديرا للراهبات ومدرسة للأيتام، بعدها استعمل مشغلا للخياطة، وحاليا يستعمل المبنى الملحق بالجهة الشمالية كمدرسة (مدرسة معروف سعد الوطنية)، كذلك توجد كنيسة ملحقة بالخان بالجهة الشمالية الشرقية أقيمت عام 1856.

وفي نظرة تاريخية على الأضرار التي لحقت بالمبنى نجد أن حريقا أصابه بين عامي 1798 و1802، مما أسفر عن تدمير القسم الجنوبي الغربي منه، إلا أنه في العام نفسه حصلت فرنسا على امتيازات، وأصبح الخان مركزا للإرساليات الكبوشية واللعازارية واليسوعية والفرنسيسكانية.

وفي عام 1809 رمم الخان لأول مرة من قبل الدولة الفرنسية تحت إشراف القنصل الفرنسي، الذي كان يقيم في البيت القنصلي الملحق بالجهة الشمالية الشرقية للخان، ليأتي عام 1837 حاملا معه هزة أرضية عنيفة ضربت صيدا ودمرت العديد من مبانيها، ملحقة التصدع ببعض جدرانه، فجرى ترميمه للمرة الثانية. وذلك قبل حلول عام 1840 حين ضرب الأسطول الإنجليزي والنمساوي المدينة، مما ألحق بالخان إصابات عدة. أما الترميم الثالث فقد بوشر به في عام 1881، واستمر لمدة عام تحت إشراف مهندس فرنسي ونائب القنصل الفرنسي. وفي عام 1982 هجره سكانه بفعل الاجتياح الإسرائيلي وأهملت صيانة حديقته وتصدع بعض جدرانه، مما دفع بمؤسسة «الحريري» إلى إعادة ترميمه وتأهيله، بموجب اتفاق مع الدولة الفرنسية، بحسب سنتينا.

وأصبح «خان الإفرنج» بعد ترميمه هذه المرة مركزا ثقافيا فنيا حديثا لمدينة صيدا وجوارها، حيث تقام فيه المهرجانات الفنية والثقافية والمؤتمرات والندوات والحلقات العلمية المتعددة، وفي قاعته الرئيسية المرممة تقام المعارض التراثية والحرفية، كمعارض الرسم والتصوير والطوابع والمنحوتات، ومعارض المنتوجات الزراعية، فضلا عن بعض النشاطات الصناعية والتقنية، أما في الصيف فهو يستضيف العديد من الفرق المسرحية والموسيقية والفلكلورية معيدا للمكان حيويته.

وقد استقطب الخان الفنانين التشكيليين الذين دونوا مسيرته بالريشة والألوان الزيتية، ولا تزال أعمالهم تدل على التفاعل الاجتماعي بين الشرق والغرب في تلك المرحلة.

وتختم سنتينا بالإشارة إلى أن العرب يطلقون تسمية «خان» بمعنى «وكالة»، ويعتبر «خان الإفرنج» أكبر هذه الوكالات، وواحدا من أهم خانات في المدينة، وهي «خان الرز»، و«القشلة القديمة»، و«خان المطرانية»، و«خان الشاكرية»، و«خان اليهود»، والخان «الفرنساوي» الذي يمتاز بأنه ضخم ومربع الأضلاع والزوايا، وطول الجانب منه مائة وخمسون قدما.

تجدر الإشارة إلى أن هذه الخانات حملت اسم البضائع التي كانت تخزن فيها، أما البقية فكانت تدعى «خان الصابون»، و«الدباغة»، و«الحمص»، و«أباظة»، و«الصغير».