تونس بعد الثورة.. المقاهي تتحول إلى صالونات سياسية

غدت متنفسا حرا لتداول مختلف القضايا والاهتمامات

أحد المقاهي التونسية.. مجال رحب جديد للكلام الحر («الشرق الأوسط»)
TT

تحولت المقاهي في تونس بعد الثورة التونسية إلى منابر سياسية يجتهد كثيرون لاستغلالها للترويج لأفكارهم، وذلك بعدما كانت من الأفخاخ التي وقع فيها عدد كبير من الناشطين السياسيين المعارضين، والمواطنين العاديين. فقد كانت المقاهي مغروسة بعناصر الاستخبارات الذين يسترقون السمع أو النظر أو كليهما معا، والويل كل الويل، كما يؤكد كثيرون، لمن كان يتكلم في السياسة في غير هوى أهل السلطة السابقة، أو خارج الأطر التي وضعتها.

أما اليوم، فغالبا ما يجتذب الصياح والنقاش في ركن من أركان أحد المقاهي زبائن جددا، يغريهم الجدال والمحاججة فيقتربون من مكان النقاش، وهم يصغون لما يدور في المناظرات.

كريم العيوني قال لـ«الشرق الأوسط»، بعدما كان قد فرغ للتو من مناقشة حامية في جلسة مع آخرين: «نأتي من حين لآخر إلى المقهى، وعوضا عن أن ينغمس الناس في لعب الورق أو تدخين الشيشة، نحاول إيصال المعلومات الصحيحة لهم عن طريق مثل هذه النقاشات». وتابع: «الناس لا يثقون في الإعلام الرسمي، الذي تحول من إعلام مديح للنظام الحاكم إلى إعلام آيديولوجي يروج لنظرة حزبية ضيقة لم تعد تقنع الجمهور، الذي فتح عينيه منذ أكثر من 10 سنوات على نمط من الإعلام المحترف الآتي عبر السماوات المفتوحة والإنترنت.. وهذا الإعلام يعرض الرأي الآخر بكثير من المهنية».

وحول كيفية الدخول في نقاش ومع من، ذكر العيوني أنه أصبح معروفا؛ لذا عندما يأتي إلى المقهى يتجمع حوله بعض الناس يسألونه عما هو متداول في الأسواق ووسائل الإعلام والمجتمع فيبدأ بالإجابة. وأردف: «هذا أمر روتيني، لكن هدفي ليس الناس العاديين فحسب، بل أصحاب وجهات النظر الأخرى. بالنسبة لي إن وجود وجهة نظر مختلفة على الطاولة أو قريبا منها صيد ثمين.. وهذا ما يجذبني، فأفضل النقاش هو ذلك الذي يوجد فيه تعدد في وجهات النظر.. وهذا ما غدا مصدر متعة لي في المقهى».

واستطرد كريم، شارحا: «أثناء الحملة الانتخابية لم أكن أعود إلى البيت مرتاحا وراضيا وسعيدا إلا إذا ظفرت بمناظرة قوية جدا، أنا مولع بمناظرات الحل النهائي، بمناظرات كسر العظم، ولا أعني ذلك العنف اللفظي أو المادي، لكن المناظرات التي أتمكن فيها من إقناع الخصم أو على الأقل إسكاته نهائيا».

والحقيقة أن النقاشات السياسية في المقاهي التونسية لا تقف عند المناظرات بين الخصوم، بل هناك نقاشات من لون واحد. أي وجود ضيف اختير في إطار خطة معينة، يتكلم والبقية يسمعون، سواء بشكل فضولي لمعرفة ما يقال، أو اضطرارا إذا وجد المستمع أو المشاهد نفسه في المكان الصحيح في الوقت الخطأ أو في كليهما معا.

وعن هذه النقطة، قال منير بن عمر: «لقد هربت من التلفزة وجئت إلى المقهى، لكنني وجدت الجو نفسه. هناك ضيوف يفرضون على المشاهدين من دون تمكين المشاهد من الاطلاع على وجهات النظر الأخرى في البرنامج ذاته والوقت ذاته، وهنا - في المقهى - أناس يشوشون على من هرب من صداع المنزل». لكن منير يرى أن «الكلام في السياسة بصوت مرتفع يظل أفضل من السباب والتلوث السمعي المنبعث من بعض من لم يتلقوا نصيبا من التربية في أحضان الأسرة والبيئة التي نشأوا فيها.. ففاقد الشيء لا يعطيه». وفي أحد المقاهي جلسنا نستمع إلى نقاش حول برنامج أحد الأحزاب السياسية الكبرى، وكان أحد الأسئلة «أن الحزب قدم برنامجا تتجاوز فترة تطبيقه الفترة المعلنة لعمل المجلس التأسيسي.. فكيف يمكن تشغيل كم هائل من العاطلين في فترة وجيزة؟».

من ناحية أخرى، لم تكن كل النقاشات التي حضرتها «الشرق الأوسط» سياسية، بل هناك نقاشات ثقافية وفلسفية عميقة تتحدث عن مفاهيم من نوع «الحداثة» و«الوعي» و«جوهر الإنسان».. إلخ. ولا تنتهي النقاشات داخل المقاهي التونسية، وإن كان بعضها مما يمكن تصنيفه في خانة «الترف الفكري» بل حتى «الجدل البيزنطي». وثمة من يناقش ويجادل في أجواء المقهى لغرض التسلية أو الجدل من أجل الجدل.

في هذه الأثناء، المواطنون العاديون بعيدون عن كل ما تم ذكره، ونقاشاتهم داخل المقاهي التي يرتادونها تدور حول قضايا حياتية تمسهم وتمس عائلاتهم مباشرة، مثل أسعار الخضار وتوافر قوارير الغاز وموضوع الفيضانات التي أعقبت موجة الثلوج التي تساقطت على تونس وما رافقها من برد وصقيع. كما يتحدثون عن الوضع الأمني الذي عاد إلى الاستقرار، وما عاشه بعض الناس من رعب في العام الماضي، وعن الحالات الاجتماعية القاسية، وأوضاع الطرقات في مداخل بعض المدن، وعن الأمل في مجتمع متآلف ومنفتح يتكلمون فيه بحرية، داخل المقاهي وخارجها.