«العم محمد جريدة».. أشهر «قفاص» على رصيف السيدة زينب

ورث المهنة أبا عن جد ويطالب برابطة مصرية ترعى العاملين بها

«العم» محمد منهمك بالعمل في أحد الأقفاص («الشرق الأوسط»)
TT

قال له والده يا بني: «حرفة في اليد أمانة من الفقر»..

هذه النصيحة التي ورث مضمونها عن أبيه وجده، اللذين امتهنا صناعة الأقفاص من جريد النخل، أصبحت مع مرور الأيام سنده في مواجهة ضغوط الحياة وتقلباتها المتزايدة يوما بعد يوم.

وعلى رصيف شارع قدري، أشهر شوارع حي السيدة زينب بالعاصمة المصرية القاهرة يستعيد «العم» محمد عباس هذه النصيحة، ويزيد عليها «الرزق يحب الخفية» (الخفة)، غير مكترث ببرودة الجو وعواصف الأتربة. ثم يبتسم وهو يتأمل شكل قفص للطيور صنعته يداه بمحبة شديدة. وتزداد لسعة البرد، لكن السعي للقمة العيش أهم عنده بكثير من إصابته بلفحة برد أو تراب أمشير (الشهر القبطي) الذي يصيب عينيه وأنفه بحساسية مفرطة.

تعود «العم» محمد على تحايا زبائنه من سكان الحي الشهير، ويسعد بلقب «محمد جريدة» بكسر الجيم، مثلما كانوا يطلقون على والده، ومن قبله جده، وهما اللذان كانا يعملان بصناعة الأقفاص في المكان ذاته قبل 80 سنة.

«العم» محمد عباس - أو «العم محمد جريدة» - تحدث عن بداية عمله بهذه المهنة، فقال: «أعمل بها منذ 40 سنة، بعدما تعلمتها من والدي، إذ كنت أساعده في جلب الجريد وشرائه من قرية المنوات بالجيزة. والجريد أساس صناعة الأقفاص». وتابع: «إن احتياجات البيت من كراس وطاولات وشماسي بلاج تصنع أيضا من الجريد. وكنت أشاهد الوالد وهو يصنع الأقفاص بيد فنان وكأنه معلم في كلية الهندسة، وهذا ما جعلني أحب المهنة وأتعلق بها طوال تلك السنوات الطويلة، رغم وفاة الوالد، ورغم قلة الدخل القادم منها...، إنها مهنة عريقة يرجع تاريخها، حسب ما روى والدي وجدي، إلى زمن الدولة الفاطمية».

وسألناه هل هناك إقبال على الأقفاص؟ وهل دخلها يكفي لحاجتك وحاجة البيت؟ وهل يساعدك أحد من الأبناء؟ فأجاب قائلا: «الإقبال على الأقفاص قليل في شهور فصل الشتاء، وبخاصة أقفاص الحمام والفراخ (الدجاج)، في حين يزداد الإقبال عليها خلال أشهر الصيف.. عندما تنشط ستات البيوت في تربية الطيور من فراخ وكتاكيت وحمام وتحتاج إلى أقفاص من الجريد تضعها فيها». وأردف: «... ويتراوح سعر القفص الواحد لتلك الأغراض من 10 جنيهات مصرية إلى 20 جنيها، حسب حجمه. وقد أظل يوما أو أياما من دون أن يشتري أحد مني قفصا. ولقد تكرر هذا الوضع معي مرات كثيرة خلال السنة الماضية التي شهدت ركودا في شراء أقفاص الطيور، وهو موقف مشابه لما جرى إبان أزمة أنفلونزا الطيور قبل خمس سنوات.. عندما شارفت مهنة القفاص على الانقراض. ذلك أن دخلها انحصر في بيع أقفاص العيش (الخبز) الذي يبلغ سعر القفص الواحد منه 150 قرشا فقط».

وأضاف «العم» محمد عباس، مستأنفا إجابته على أسئلتنا: «متوسط دخلي في اليوم من وراء بيع أقفاص العيش بين 10 جنيهات و15 جنيها... ومعه قد أبيع قفصا للطيور وقد لا أبيع. ومن ثم، فإجمالي دخلي الشهري من وراء مهنة القفاص لا يزيد على 600 جنيه، وهو بالطبع لا يكفي حاجتي وحاجة زوجتي. أما عن أولادي، فعندي ابن وحيد يعمل منجدا ولدي كذلك ابنة متزوجة».

وعن أسباب إحجام ابنه عن السير على خطاه واختيار مهنة القفاص مثله ومثل أجداده، رد «العم» محمد ساخرا: «يا بيه لو اشتغل قفاص يدخل جيبه 600 أو 800 جنيه على أقصى تقدير، وبالطبع اخصم منهم ثمن الجريد الخام.. يعني الدخل مش هيكفي 10 أيام في الشهر».

حينئذ، سألنا «العم» محمد عما يجبره، والحال كذلك، على الاستمرار بهذه المهنة التي لا تحقق الحد الأدنى من الدخل الذي يكفيه وأسرته، فرد بصراحة «أنا تجاوزت سن الـ60.. وما عادت لدي طاقة أو حتى استعداد لتغيير المهنة التي أحببتها لأكثر من 40 سنة. وهي رغم مشقتها وعنائها.. ولا سيما العمل في ظروف صعبة على الرصيف بين برودة الجو والأتربة شتاء وحرارة الجو ورطوبته صيفا، فإن الناس عرفوني بـ(قفاص شارع قدري) أو (العم محمد جريدة اللي عند مركز شباب السيدة زينب).. وهذه أمور تسعدني».

ولم ينس «العم» محمد، خلال حوارنا معه، أن يتحدث عن هموم المهنة المباشرة بخلاف قلة الدخل، إذ قال: «إذا تعرضت لأزمة صحية لا أجد من ينفق علي وليس لي معاش أو تأمين صحي.. حتى المحل حيث كنت أعمل قد تهدم في البيت الذي كان مقاما عليه ولم تعوضنا الحكومة عنه حتى الآن. وهذا هو السبب الذي جعلني أصنع الأقفاص على الرصيف طيلة السنوات الـ6 الماضية وسط المخاطر وتقلبات الجو. ويزداد الموقف صعوبة عندما يحل الليل.. فعندها أضطر للعمل تحت أعمدة الإنارة لكي أرى ما أصنعه جيدا، وهذا بخلاف تعرض أصابعي للشوك باستمرار، ولهذا تراني أحمل دبوسا لاستخراج تلك الأشواك».

في ضوء كل هذه الظروف الصعبة المحيطة بمهنة القفاص تمنى «العم» محمد أن يصبح لصناع الأقفاص ومنتجات الجريد نقابة أو رابطة مشهرة خاصة بهم، تبحث مشاكلهم وتسعى لحلها، وبالأخص أن هذه المهنة منتشرة بكثرة في الأرياف، بخلاف قرية «المنوات» بالجيزة، وبجوار أسواق الخضار الكبيرة.

أما عن أدوات القفاص التي يستخدمها «العم» محمد وغيره من القفاصين فبسيطة، كما يقول، وهي «السلاح والسكينة والقرمة والخفيفة والتقيلة ومسمار العلامة والمعدلة بخلاف دبوس الشوك». وفي ختام اللقاء أبدى تعجبه من بعض الزبائن الذين يقللون من قيمة قفص الجريد لدرجة أن عددا منهم يساوم في الثمن بحجة أن القفص من الجريد، وكأن هذا الجريد من دون ثمن، أو أن المجهود المبذول في هذه الصنعة مجاني بلا مقابل. وقال: «هذا ما يحزن القفاص بوجه عام. فليس هناك تقدير لمجهوده، مع أن الأقفاص المصنوعة من الجريد - كما قال - أفضل بكثير من الأقفاص البلاستيكية، نظرا لرخصها وخفة وزنها ونظافتها أيضا، بعكس الأقفاص البلاستيكية التي هي غالية الثمن وسهلة التلوث».