النجارة وصناعة الأثاث في تونس رهن المقدرة المالية أولا.. والأذواق ثانيا

لكل مستوى من الجودة ثمن

أثاث تونسي.. يناسب جميع الأذواق ومختلف مستويات الدخل («الشرق الأوسط»)
TT

تعود صناعة الخشب وتجارته في تونس إلى عصور غارقة في القدم. وهناك قصص وخرافات تروى حول الخشب وحتى يومنا هذا. فلقد استخدم الإنسان منذ عصور سحيقة الخشب للحصول على الدفء ولطبخ الطعام، واتخذ منه مراكب في البحر، وأدوات لطعامه، وبنى منه المنازل ليتقي البرودة والحرارة على حد سواء. واليوم يدخل الخشب في صناعات تونسية كثيرة، لكنه ما زال محتفظا بمركزيته في مجال أثاث المنزل.

«الشرق الأوسط» التقت حسين العلاني، مدير التسويق بأحد محلات الأثاث (المفروشات)، وسألناه عن تجارته فقال: «كنا في الأساس نبيع السجاد، لكننا تحولنا إلى بيع الأثاث المنزلي منذ بضع سنوات». ونظرنا من حولنا داخل المحل، وكان الأثاث بديعا تسحر نماذجه وأشكاله العقول. هنا تجد مختلف قطع الأثاث: الطاولات والكراسي، فرش وأسرة، دواليب وخزانات.. جميعها تبدو كما لو كانت عارضات أزياء جاثية على ركبها، تهمس بانكسار «اشتريني..!».

هذا على الأقل الإحساس الذي غلب علينا ونحن نتجول في المحل الكبير. ويظهر أن سي حسين العلاني لاحظ إعجابنا بما هو معروض فنفث في عقدة إعجابنا قائلا: «هذه الموديلات بعضها من ابتكارنا، وبعضها الآخر مقتبسة تصاميمه من الإنترنت.. ولكنها من صنع شركات كثيرة في تونس العاصمة وسوسة وصفاقس والقيروان».

ومع أن كل ما يمكن أن يطلبه الزبون متوافر تقريبا، أفادنا العلاني أن «بعض الزبائن يعطينا مقاسات خاصة بمنزله، ونحن نعد له ما يطلبه سواء تعلق الأمر بالمقاسات أو الموديلات أو غيرها». وحول الأسعار أجاب: «لكل مستوى من الجودة ثمن»، مضيفا «الجودة في نهاية المطاف رأسمالنا، ولدينا أطقم للصالونات وأثاث لغرف النوم والمكاتب، وكل لوازم البيت، وعليك ألا تنسى بأن تونس تشهد تطورا كبيرا في مضمار التصميم».

من ناحية أخرى، في ظل القدرات الشرائية المحدودة وغلاء الأسعار تعتمد محلات أثاث كثيرة، ومنها محل العلاني، سياسة البيع بالتقسيط «الذي يحل المشكلة»، حسب تعبيره، ومن ثم يطالب السلطات التونسية «بوضع قانون يكون مرجعا في الضرائب الجمركية لأن ما كان سائدا هو اختلال الموازين والمكاييل».

بشكل مواز، لا تزال مهنة النجارة الفردية حية في تونس، رغم وجود المصانع وكبريات محلات الأثاث. وفي لقاء مع عز الدين بن بلقاسم، الذي يعمل نجارا منذ عام 1978، قال عز الدين: «لقد استفدت من النجارة ومنها بنيت كل شيء. إنها مورد رزقي. لقد تزوجت وبنيت منزلا وعلمت أولادي من مردود هذه المهنة». وتابع عز الدين بلقاسم مؤكدا على أن هناك إقبالا على محله الصغير في المنطقة حيث يسكن الآن، لكن أغلب زبائنه من خارج المنطقة. وأوضح قائلا: «لقد غيرت مكان عملي، إلا أن زبائني ما زالوا يأتون إلي طالبين مني صنع ما يحتاجونه من أثاث ولوازم خشبية منزلية، ابتداء من الأسرة والطاولات وأرائك الجلوس وانتهاء بالأبواب والنوافذ».

وأشار عز الدين إلى أن كثيرين من زبائنه ينصحون به معارفهم وأقرباءهم وأصدقاءهم، فيكسب زبائن جددا، وهذا أمر طيب. أما عن غلاء الأسعار، فقال: إن المسألة تعتمد على نوعية الخشب، وأعطى مثلا: «أثاث غرفة نوم من النوعية العالية يصل إلى 5 آلاف دينار تونسي (الدينار يساوي نصف يورو تقريبا)... فمن يقدر على شرائها؟!!، ولكن غرف النوم المصنوعة من الخشب الأقل جودة لا تزيد أسعارها عن 2500 دينار تونسي».

وعن المدة التي يمضيها في صنع أثاث غرفة نوم واحدة، أجاب: «إنها تتراوح بين شهر وشهر ونصف الشهر». وتابع شارحا أن عملية تغليف الصناعات الخشبية من اختصاص آخرين، وأن بإمكانه تحقيق رغبات الزبون، ولكن على حساب الأخير. وأنهى كلامه متوقعا ازدهار مهنة النجارة وصناعة الأثاث في تونس «لأن الطلب عليها في تزايد».

الصحبي بن محمد، نجار آخر بدا مثل عز الدين بلقاسم مغرما أيضا بمهنته، إذ بادرنا بالقول: «أحب هذه المهنة التي بدأت بمزاولتها منذ عام 1991 وقد عملت لمدة 10 سنوات مع حرفي نجارة، ثم فتحت محلا خاصا بي، وأنا راض عن هذا العمل والحمد لله». وعما جناه من أرباح خلال مسيرته المهنية، قال الصحبي «لا شيء يستحق الذكر... لم أجن الشيء الكثير، لكنني حققت نوعا من الاكتفاء الذاتي، أي ما أحتاجه لمعيشتي... والأمور مستورة والحمد لله».

لا توجد في محل الصحبي، سوى آلتي نجارة، أخبرنا أنه اشترى إحداهما بمبلغ وفره من المردود المالي لنشاطه المهني، والآلة الثانية اشتراها بقرض من بنك التضامن. ولا يرى الصحبي وجود اختلاف في المردود المالي بين فترة عمله في ورشة معلمه، والفترة التي يعمل فيها لصالحه بمجهوده الذاتي، إذ قال: «في الحقيقة، لا فرق.. فهذه المهنة تحتاج للإمكانيات المادية وللمساحة المطلوبة وللآلات المختلفة التي تستوجبها الصنعة الحديثة»، أضاف: «عمل المصانع يتمتع بتوافر المساحة وبوجود آلات حديثة، ولكن مستوى الجودة أقل من تلك التي تتوفر لدى أصحاب الورش الصغيرة». وحول أسعار أثاث غرف النوم الذي ينتجه، أفاد بـ«أن ذلك يتوقف على النوعية. وفي هذا الإطار تتفاوت الأسعار بين ألف دينار و7 آلاف دينار».

ثم أوضح أن عملية اختيار الأشكال والنماذج (الموديل) تعود للزبائن من خلال «كتالوغ» موجود لديه، متابعا «يأتي الزبون، فينظر في الكتالوغ، ومن ثم يختار الموديل الذي يعجبه، وأحيانا يضيف بعض الأشياء الأخرى، أو يطلب حذف بعض الأشياء ونحن نستجيب لطلبه». وفي المقابل، اعترف الصحبي بأن ثمة تقنيات غير متوافرة لدى الحرفيين الصغار، لكنها موجودة لدى المصانع وبيوت بيع الأثاث المنزلي الكبرى، مثل الوسادات الجلدية التي تزين الفرش في معارض بيع الأثاث. وشرح «لدى المصانع والمحلات الكبيرة أعداد كبيرة من العمال لكل تخصص مختلف، فهذا متخصص في التغليف والآخر في ابتكار الموديلات والديكور، .. وهكذا». غير أنه عندما سألناه إذا كان الحرفيون الصغار مهددين من قبل المصانع الكبيرة ودور الأثاث، نفى ذلك مشددا: «طالما هناك طبقات اجتماعية مختلفة في البلاد، سيجد كل حرفي وكل صاحب بضاعة زبائن ومشترين بمستوى أسعاره وأسعار ما ينتجه، إذ أن هناك من لا يقدر على شراء قطع أثاث بـ3 آلاف دينار وأكثر ويكتفي بما يباع بـ300 دينار فقط وحتى أقل من ذلك».

وعن الأسعار الزهيدة في السوق قال: «غير الحرفي لا يرى سوى السعر، ولكن النجار الماهر يكتشف الاختلاف وهو متمثل أساسا في نوعية الخشب وهنا يتضح الفارق بين الخشب الجيد الثمين والخشب الأقل جودة.. وبالتالي الرخيص». وهنا شكا من غلاء أسعار الخشب «الذي لا يصل إلى النجار إلا بعد 5 مراحل، أي 5 أطراف كل طرف يضيف ربحه الخاص على البضاعة».