حبات الخرز.. أدوات أسير فلسطيني لصناعة المجسمات الفنية

مستفيدا من مهنة تعلمها في سجنه الطويل

مجسم قبة الصخرة.. من إبداع إبراهيم عساكرة
TT

يحاول الأسير الفلسطيني السابق إبراهيم عساكرة «أبو حافظ»، أن ينهض بمهنة قديمة اخترعها الأسرى داخل السجون الإسرائيلية، لكي تصبح مصدر رزقه الوحيد خارج القضبان. عساكرة (49 سنة) يمضي معظم وقته، هذه الأيام، في صناعة مجسمات طالما برع الأسرى في صناعتها داخل السجون كتذكارات رمزية مرتبطة بتاريخهم هناك، وكانوا يهدونها عادة إلى أعز الأقارب والأصدقاء في الخارج. وكان «أبو حافظ» واحدا ممن يصنعونها داخل هذه السجون بأبسط الأدوات المتوافرة آنذاك، مع وجود وقت طويل والحاجة إلى صبر أطول.

إلا أن الفارق بين الماضي والحاضر كبير الآن. في الماضي كان عساكرة «يقتل» الوقت داخل سجنه بصناعة سفن ومساجد وبراويز وتذكارات مختلفة، أما اليوم فإنه يأمل في أن تتحول «سلوى» السجن إلى مصدر رزق كريم له ولعائلته. وحقا، قال عساكرة لـ«الشرق الأوسط» عندما التقيناه: «قلت لنفسي لماذا لا أستغل ما علمتني إياه ليالي السجن الطويلة، فتصبح تجربة أكثر من مفيدة، ومصدر رزق أيضا؟».

إبراهيم عساكرة أمضى وقتا طويلا خلف قضبان السجون، إذ اعتقل عام 1985، وأمضى في السجن 9 سنوات من أصل فترة محكومية 23 سنة. ثم اعتقل ثانية عام 1997 وأمضى شهورا محكوما بـ«الإداري» وخرج، واعتقل للمرة الثالثة عام 2005 بعد انتخابه نائب رئيس بلدية جناته، القريبة من بيت لحم، وحوكم بـ«الإداري» أيضا.

ومع تكرار الاعتقال أصبح الحصول على مصدر رزق كريم لعساكرة مسألة صعبة، بل قل غير متيسرة، فلا العمل ينتظر ولا الناس ولا عائلته أيضا. وحسب كلامه: «نسيت مهنتي ونسيني الناس. كبرت وتعبت داخل السجن، وكبرت وتعبت خارجه أيضا».

عاش إبراهيم عساكرة لفترة طويلة عاطلا عن العمل، وهكذا خطر له أن يعود مجددا «ليتسلى» بصنع التذكارات، منطلقا من الحكمة الشعبية الفلسطينية «الصدة (القعدة) بتعلم التطريزة»، وهو مثل ينطبق على ما كان يصنعه الأسرى أيضا من تذكارات، إلا أن الفكرة - الخاطرة كبرت مع الوقت، ومن ثم نضجت وأصبحت مصدرا للرزق.

وقال عساكرة وهو يثبت مئذنة على مجسم كبير لقبة الصخرة: «هذا الخرز (الذي يشكل منظر القبة) أصبح صديقي الآن، إنني أمضي معه ساعات طويلة كل يوم. وبصراحة، هذا أفضل من العمل في السياسة وفي مهن أخرى». وبالفعل، ثبت مئذنة على المجسم الكبير، وقال سعيدا: «ليس هناك ما هو أجمل من أن تصنع قبة الصخرة خرزة خرزة». قالها بنبرة المُنتشي بوضعه اللمسات الأخيرة على «تحفة الأعمال» بالنسبة له. مجسم كبير لقبة الصخرة، أخذ من وقته أكثر من سنة كاملة، موضحا: «أمضيت سنة كاملة في صنع قبة الصخرة، وكنت أعمل ما معدله 6 ساعات إلى 8 ساعات يوميا». وإلى جانب القبة، كانت هناك تذكارات لبراويز وأعمال يدوية وعلب مختلفة للحلويات ومحارم الوَرَق، ولسفن صغيرة وكبيرة. ولكن لا بد هنا من القول إن هذه الحرفة أصبحت، في أي حال، نادرة بعدما منعها الإسرائيليون حتى داخل السجون منذ أكثر من 15 سنة.

واستأنف «أبو حافظ» كلامه: «إنها مهنة تحتاج إلى دقة كبيرة وصبر طويل وأعصاب قوية. باختصار، إنها متعبة بل مرهقة جدا، وقد تكون مملة في أحيان كثيرة». وحقا، سيلاحظ الناظر إلى مجسم القبة دقة لا متناهية في تجسيد الواقع. فهنا نحن أمام قبة ذهبية وآيات من القرآن وأشكال هندسية وأدراج وساحات وأبواب مصنعة كلها من حبات الخرز الملون، وهو ما يثير الإعجاب. وأيضا التساؤل كيف استطاع الرجل صنع هذا المجسم الكبير والدقيق.. خرزة خرزة، من أدوات ومكونات بسيطة، هي – كما قال - «خشب وكرتون وزجاج ملون وخرز وخيوط الحرير». والواقع أن هذه الأدوات والمكونات تعد تقدمة للغاية إذا ما قيست بما كان يعمل فيه داخل السجن، من كرتون قليل وخرز عادي وطعام العصافير وبعض قشور المكسرات.

كيف يباشر العمل؟

يرسم عساكرة الأشكال الهندسية المطلوبة لبناء قبة الصخرة على قاعدة خشبية. ومن ثم يبدأ بإدخال الخرز حبة حبة في خيوط الحرير، ثم يثبتها على الأشكال المرسومة، قبل أن يسحب الخيط ويبقي الخرز حيث هو. ويكرر هذه العملية لساعات حتى ينتهي من مربع أو مثلث أو معين واحد في مجسم جمع فيه أكثر من نصف مليون خرزة. وعلى هذا الجهد الدقيق يعلق قائلا: «طبعا بالنسبة لكثيرين هذا عمل لا يطاق».

ولكن مع هذا، يجد عساكرة متعة بالغة في صرف وقت طويل لبناء مجسماته، ويأمل جديا بتسويقها، إلا أن البضائع الصينية التي تغرق السوق تبدو العدو الأول لعساكرة، الذي يشرح: «التجار يفضلون البضائع الصينية لأنها أرخص ثمنا. وطبعا أنا لا أستطيع مجاراتهم. ما أصنعه عمل يدوي متعب... والأعمال اليدوية يدوية متعبة وإن كانت أعلى جودة». ويضيف: «ولكن، والحمد لله، يظل هناك من يقدرون العمل، ويدفعون.. وإن كانوا قلة».

ماذا عن المشاريع المستقبلية؟

يجيب عساكرة: «أفكر بإنتاج مزيد من مجسمات قبة الصخرة بحجم أصغر، وأنا في الحقيقة مستعد لذلك، وإذا تيسر التمويل أو التسويق فإن باستطاعتي إنتاج مجسم كل أسبوع». واختتم كلامه معربا عن أمله بتسويق أعماله في دول عربية إسلامية، بعد تعلم أصول فنها على نفسه في السجون الإسرائيلية.