المعهد السويدي بالإسكندرية.. من قصر تاجر أخشاب إلى مركز يهتم بالعالم العربي

بداخله لغز شبح القنصل فون غربر

قصر فون غربر.. أو المعهد السويدي في الإسكندرية («الشرق الأوسط»)
TT

في الأزمان البعيدة ارتحل رجل سويدي يدعي كارل فيلهلم فون غربر عن بلاده وحل في الإسكندرية، ثاني كبرى المدن المصرية، حيث شيد قصرا بهيا على شاطئها، لكنه لم يعلم أنه سيشهد نهايته المحيرة.

اليوم يطل القصر من بين الأبنية الكلاسيكية ذات الطراز الفلورنسي، ويقدم لزائره منظرا رائعا لكورنيش الإسكندرية. فعند زيارته في الرقم 57 شارع 26 يوليو بكورنيش المنشية، ومن أعلى القصر تتاح للزائر رؤية الإسكندرية كعروس بحرية تستلقي على شاطئ لازوردي يمتد لمسافة 30 كلم، وذلك قبل أن يصدم بالزحام والضجيج في منطقة المنشية التجارية بمجرد مغادرته. كان القصر، منذ تشييده عام 1925، معروفا لدى الجاليات الأوروبية في الإسكندرية بـ«قصر السويد»، (Le Palais de Suede)، وكان يمر به السكندريون مرورا عابرا لأن أغلبهم يجهل قصة هذا القصر، وإذا ما سألت أحدهم قد لا يعرف مكانه. لكن بعض سكان المنشية القدامى وتجار الأخشاب المجاورين له يعرفون القليل عن قصر تاجر الأخشاب السويدي الثري وعن لغز شبح فون غربر.

لقد جمع فون غربر ثروته من استيراد الأخشاب السويدية، وكان يمتلك مصنعا لصناعة أعواد الثقاب في منطقة المكس، وكان معروفا ببذخه واستضافته الحفلات التي تضم نخبة وصفوة رجال الأعمال والمثقفين والدبلوماسيين بالإسكندرية. إلا أنه كان أيضا قنصلا عاما للسويد خلال الفترة بين عامي 1925 و1952، وظل محتفظا باللقب حتى بعد تقاعده. وقبيل وفاته بسبعة أشهر، تبرع بجزء من قصره ليكون كنيسة للبحارة السويديين، وافتتحت الكنيسة في احتفال كبير يوم بداية عام 1959، وكان قد خصص الطابق الرابع في منزله كمدرسة لرعاية الصم والبكم.

بيد أن حياة القنصل فون غربر انتهت بصورة يكتنفها الغموض، إذ وجد في صيف 1959 مقتولا في حمام القصر، ولم يحل لغز تلك الجريمة منذ وقوعها حتى اليوم. والغريب ما تردد بعد ذلك من أن صاحب القصر المقتول يعود إليه ليلا ويراه بعض سكان المنطقة وهو يطل من نوافذه، التي كانت تفتح تارة وتغلق أخرى في حركات سريعة. ونظرا لأن المكان كان مغلقا في فترة من الفترات ظن البعض أن روحه تحوم حول القصر.

ويؤكد يان سيجويل، الذي يقطن في الإسكندرية ويعد كتابا عن حياة فون غربر، أنه كان رجلا متعدد الاهتمامات وكان له نشاط ثقافي ملحوظ في المدينة، بجانب نشاطه التجاري والدبلوماسي. فلقد كان عضوا في جمعية الآثار بالإسكندرية، ولعب دورا مهما إبان الحرب العالمية الثانية، فكان يرعى اللاجئين الأوروبيين من الألمان والفنلنديين والمجريين، وهو ما يفسر الأوسمة الكثيرة التي كانت تزين بزته الرسمية، والتي تلقاها نظير خدماته الجليلة أثناء الحرب.

ويسترجع سيجويل أحداث الجريمة التي هزّت الإسكندرية في ذلك الوقت راويا «صبيحة مقتله ونحو الساعة 10 صباحا، أجرى آلان لوفتبرغ، نائب القنصل، ونائب رئيس شركة (النيل للكبريت السويدية)، مكالمة هاتفية بقصر فون غربر للاطمئنان عليه، فرد مساعده قدري عبد الرزاق عطية ليخبره بالنبأ الأليم، وأن فون غربر وجد مقتولا في حوض الاستحمام الخاص به. وذهب لوفتبرغ إلى القصر الكائن في شارع الملكة نازلي (شارع 26 يوليو حاليا)، وصعد مباشرة إلى غرفة القنصل القتيل، وكان هناك عدد كبير من رجال الشرطة والنيابة العامة يرافقون رئيس المباحث الجنائية، ومجموعة من مراسلي الصحف المحلية والعالمية».

ويروي لوفتبرغ ذلك في مذكراته، قائلا «استجوبت الشرطة الموظفين الثلاثة الذين كانوا يعملون في القصر، وكانت شهاداتهم مثيرة للاهتمام، إذ أجمع اثنان على أن القنصل العام كان يحرص دائما على إغلاق جميع النوافذ في الليل، أما الثالث فقال إن القنصل العام كان يميل إلى تهوية حمام القصر لتجنب الرائحة الكريهة من المرحاض. وقد أجري تشريح أول للجثة وأعلن أن فان غربر مات بسكتة دماغية، وقد شرحت الجثة مرة ثانية وقيل إن الوفاة بسبب ضربة قوية فوق الأذن اليمنى».

ويضيف سيجويل «أجرت وزارة الخارجية السويدية في استوكهولم ممثلة بأوستن أودن اتصالا بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لاستبيان ما حدث من ملابسات حول الجريمة ليكون رده: لا يمكن أن يقتل القنصل السويدي على يد مصري، ومن ثم أغلق ملف القضية وما زال القاتل مجهولا».

وفي عام 1999 تحول القصر إلى مقر للمعهد السويدي (SWEDALEX) بموجب قرار جمهوري، تابع لوزارة الخارجية السويدية، وافتتح رسميا في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2000.

«الشرق الأوسط» ذهبت في جولة إلى القصر، اصطحبتنا فيها نائبة مديرة المعهد السويدي حاليا، سيسيليا سترنيمو، التي تقول «المبنى مكون من 4 طوابق، واستغرق تجديده وترميمه سنتين كاملتين، ولقد حافظنا على الأساس الأصلي للقصر ومعظمه مطلي بالألوان نفسها التي كان عليها وهما اللونان الأزرق والذهبي الأصفر وهما لونا العلم السويدي». والواقع، أن مبنى المعهد السويدي من الداخل أكثر جمالا وروعة من الخارج. فهو بحق تحفة معمارية فريدة تتسم بفخامة القصور الملكية التي تعود إلى عصر «الباروك» و«الروكوكو» بزخارفها الذهبية التي تسري في جدران المبنى، كما تبعث ديكورات القصر على الراحة خاصة مع خلفية البحر المتوسط.

أما أروع القاعات على الإطلاق فالقاعة الكبرى التي تشهد الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات وتجمع أحيانا بين ممثلين من 40 دولة من أوروبا والعالم العربي. ويضم القصر مكتبة ضخمة مليئة بالكتب، فيها طاولة بلياردو ضخمة وساعات أثرية وآلة بيانو ضخمة لا تزال محتفظة برونقها.

المعهد، بحسب سيسيليا، هو الرابع مع ثلاثة معاهد سويدية في روما وأثينا وإسطنبول، لكنه الوحيد من نوعه فيما يقدمه من نشاطات ولقاءات، ويستضيف المعهد، بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية مؤسسة «آنا ليند الأورومتوسطية للحوار بين الثقافات».

وتتابع سيسيليا «نأمل أن يسهم المعهد في زيادة التفاهم المتبادل في مجالات الثقافة والدين، ومعالجة المسائل المهمة بالنسبة للتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة، وكذلك الشراكة الأوروبية المتوسطية، ونحاول مناقشة قضايا حقوق الإنسان والعنف إلى جانب القضايا الثقافية والفلسفية والإعلامية».

وتذكر أن من أهم زوار المعهد السويدي ملك السويد كارل السادس عشر غوستاف، وزوجته الملكة سيلفيا ملكة السويد، وأميرة السويد وولية العهد الأميرة فيكتوريا، ووزيرة الخارجية السويدية الراحلة آنا ليند، إلى جانب عدد من كبار المثقفين والسياسيين في العالم العربي.