«قطار الصحافة» يتراجع أمام الوسائل الجديدة لنقل الجرائد للدلتا والصعيد

ما زال يحتفظ باسمه عند المصريين رغم تغير مهمته في السنوات الأخيرة

«قطار الصحافة» كان الوسيلة الأفضل لنقل الصحف إلى محافظات الوجه البحري والصعيد («الشرق الأوسط»)
TT

عندما تشير عقارب الساعة في «محطة مصر» إلى الساعة الثانية والثلث صباحا، تتلون الإشارة باللون الأخضر إيذانا بمغادرة القطار رقم «1» رصيف المحطة، منطلقا إلى محافظات دلتا النيل، حيث يفرغ حمولته من الصحف.

«قطار الصحافة».. هو المسمى الذي اشتهر به ذلك القطار منذ عقود طويلة، كانت مهمته الأساسية خلالها حمل الصحف المصرية في عربة «السبنسة»، وهي عربة بلا نوافذ أو مقاعد، وغالبا ما تكون المركبة الأخيرة من القطار.

والواقع أن الصحافة تدين بالفضل لهذا القطار.. فمن خلاله عرفت المدن والقرى المصرية الصحافة، وكان يقطع مئات الكيلومترات كل ليلة لتوصيل الطبعات الأولى من الصحف إلى موزعيها قبل الصباح. وحتى وقت قريب كان يعد الوسيلة الوحيدة لنقل الصحف إلى محافظات الوجه البحري (شمال مصر)، وإلى محافظات الصعيد (جنوب) التي كان هناك قطار آخر مخصص لها ينطلق في وقت من الليل نظرا إلى طول المسافة التي يقطعها إلى محافظات الجنوب.

ولكن دور القطار توارى خلال السنوات الأخيرة، وبدأت مهمته تتلاشى رويدا رويدا، مع تطور وسائل تكنولوجيا الطباعة والنشر، وبعدما بات لدى المؤسسات الصحافية الكبرى في مصر أساطيل سيارات التوزيع مما يمكنها من نقل إصداراتها من الصحف بسرعة أكبر إلى أي مكان تريده.

جلال أحمد سالم، مشرف توزيع الوجه البحري في مؤسسة «الأهرام» الصحافية، تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن تطور «قطار الصحافة»، فقال: «في البداية كان القطار يقتصر على عربة واحدة فقط من نوع السبنسة، ثم زادت عربة أخرى بعد فترة ليتكون القطار من عربتين وكانتا مخصصتين للجرائد فقط، وبعد مدة ألحق به عربة للركاب، أصبحت تزيد واحدة تلو أخرى حتى أصبح القطار كله للركاب حاليا».

ويذكر مشرف التوزيع أنه كان لكل من الصحف الثلاث القومية الكبرى في مصر - «الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» - موزع متخصص يركب هذا القطار كل ليلة. ومع دخول القطار كل محطة كان الموزع يسارع إلى إلقاء الصحف الخاصة بمؤسسته بكميات محددة سلفا على رصيف المحطة، حيث يتسلمها من هناك شخص آخر هو المتعهد، الذي يكون بانتظار وصول القطار - حيث إنه يعرف موعد وصوله بالضبط - وتجري هذه المهمة في غضون دقائق معدودة لأن على القطار مواصلة رحلته. أما وظيفة المتعهد فهي توزيع الصحف الواردة إليه على الباعة والموزعين في المدن والقرى، وهم بدورهم يبيعونها إلى القراء.

وأضاف جلال أحمد سالم «هذه الدورة كانت تجري كل ليلة. وفي رحلة العودة للقطار كان الموزع يتسلم المرتجعات من المتعهد»، مبينا أن هناك اتفاقية بين الصحف وبين هيئة «سكك حديد مصر» لتسيير الدورة بهذه الطريقة. وكانت الصحف، من جانبها، تحرص على أن تنجز الطبعة الأولى من الجريدة لكي تلحق القطار.

وأردف «(قطار الصحافة) هو في حقيقة الأمر عدة قطارات وليس قطارا واحدا.. فهناك رحلات تخرج من (محطة مصر) في القاهرة، منها رحلتان رئيسيتان، الأولى تتجه نحو الوجه البحري، والثانية تقصد محافظات الصعيد والوجه القبلي، إلى جانب رحلات أخرى تتجه إلى الضواحي والخطوط الفرعية للمحافظات».

ثم أوضح «قبل نحو 6 سنوات ألغيت عربات السبنسة (العربات الأخيرة) من (قطار الصحافة)، بعدما صارت المؤسسات الصحافية تعتمد في توزيع مطبوعاتها على أسطول السيارات التي تنطلق من القاهرة فور صدور الطبعات الأولى لتغطية المحافظات المختلفة، وتصل (من الباب إلى الباب)».. مضيفا «اليوم (قطار الصحافة) يستخدم حاليا على نطاق ضيق في بعض الخطوط، ومع هذا، أي مع تواري مهمته الأصلية في نقل الصحف، ما زال محتفظا باسمه».

سالم، الذي عمل في مهنته 25 سنة وما زال، قال إن «القطار كان هو الوسيلة الأفضل والأسرع في ما مضى، لأن الطرق لم تكن كما هي الآن ممهدة وممتدة وصالحة للاستخدام طوال ساعات اليوم، والقطار كان بالفعل معينا للمؤسسات الصحافية في التغلب على العديد من مشاكل النشر والتوزيع». وتابع «طبعا، كانت هناك بعض الصعوبات التي كانت تقابل الموزعين والمتعهدين، مثل تعجل الموزعين في إلقاء الصحف واضطرار المتعهدين إلى جمعها بطول الأرصفة أو القضبان الحديدية في بعض الأحيان، وهو ما كان يعرض بعض أوراق الصحف للتلف، إلى جانب حرمان القراء من مطالعة الصحف إلا في ساعات الصباح بعكس القاهرة التي كانت تقرأ صحف الغد ليلة صدورها».

على أي حال، على الرغم من تواري مهمة «قطار الصحافة» في نقل الصحف، فإنه ما زال وسيلة النقل الرئيسية لكثرة من أبناء المحافظات المصرية المختلفة، ولا سيما أولئك الذين تضطرهم ظروف عملهم إلى التأخر إلى ما بعد منتصف الليل بساعات، ولذا يلجأون إليه في ذلك الوقت المتأخر لأنه وسيلة النقل الأكثر أمانا.

من هؤلاء محمد عبد الواحد (37 سنة)، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه كثيرا ما يضطر إلى ركوب «قطار الصحافة» إلى محافظته (الغربية بالدلتا)، وذلك بسبب ظروف عمله المتأخرة في القاهرة. واستطرد «هذا هو أيضا حال العديد من المصريين، خاصة الذين ينتمون إلى الطبقات الكادحة أو الذين هم من محدودي الدخل، الذين يعتمدون على هذا القطار في طريق العودة إلى منازلهم في ذلك الوقت المتأخر، ومع ظروف الطقس المتقلبة، خاصة في الشتاء».

وشرح عبد الواحد أنه «خلال فصل الصيف تزيد فئة المصطافين على (قطار الصحافة)، وأغلبهم من الأسر والطبقات المتوسطة الذين يقصدون شواطئ مدينة الإسكندرية للاصطياف، أو من الشباب الذين يتجهون لتمضية يوم واحد على البحر، فيلجأون للقطار الذي يمكنهم من الوصول إلى الإسكندرية باكرا. وهكذا يمضون أطول وقت ممكن على الشاطئ».. وهذه من المزايا التي يتمتع بها الآن «قطار الصحافة» الذي ما عاد اسمه التقليدي يعبر عن مهمته الجديدة.