«بيغ بن» السعودية.. نصف قرن خنق صوتها الأنثوي وطوقها بالأبنية الحديثة

«ساعة الصفاة» شاهد صامد وصامت على التغييرات الاجتماعية والحضارية في الرياض

الساعة وقد أحاطت بها الأبنية الحديثة (تصوير: خالد المصري)
TT

تحمل ساعة الصفاة في منطقة قصر الحكم، وسط العاصمة السعودية الرياض، كنوزا من الذكريات، وظلت لعدة سنوات معلما نابضا بالحياة من معالم المدينة، غير أن مدينة الرياض كبرت واتسعت، وعاشت على امتداد نصف قرن نهضة عمرانية وتطويرية ضخمة تحت قيادة الأمير سلمان بن عبد العزيز وإشرافه، جعلتها اليوم إحدى أبرز الحواضر العالمية الكبرى.

قبل 4 عقود، سجلت ساعة الصفاة، التي يلقبها كثيرون بـ«بيغ بن السعودية»، اسمها ضمن أشهر معالم العاصمة السعودية، مثل برج المياه في حي المربع، وعمارة البرج بشارع الجامعة، ومبنى المعهد الملكي الفني بقبته الحمراء وطرازه المعماري اللافت، وقصر الحمراء. وما زالت هذه الساعة حتى يومنا هذا تقف شامخة في الساحة التي تحمل الساعة اسمها، والتي تطل على جامع الإمام تركي بن عبد الله - المعروف باسم «الجامع الكبير» - ومبنى إمارة منطقة الرياض وحراج بن قاسم وأسواق السدرة ومحلات الصرافين والعيادات الطبية الخاصة، غير أنها بعدما كانت نقطة الدائرة في ساحة فسيحة يشاهدها الناظر من بعيد، فهي اليوم تحتل مكانا منزويا في نهاية شارع الثميري، على مقربة من السور الشرقي لقصر الحكم، تحيط بها المباني العصرية الحديثة العالية.

مع هذا، احتفظت الساعة العريقة بشكلها القديم، ورغم أن يد التطوير والتوسع العمراني طالت المنطقة التي تقوم فيها ضمن مشروع تطوير قصر الحكم. وبقيت صامدة، وإن كانت صامتة، إلا من حركة عقاربها، وهذا بعدما كانت دقاتها تسمع وتتردد في مختلف أنحاء المدينة... كل ساعة.

ساعة الصفاة، في أي حال، قدمت عبر السنين لسكان الرياض خدمة تحديد الوقت، إما بالسماع، أو بضبط عقارب ساعاتهم على دقاتها عند مغرب كل يوم عندما تصل الساعة إلى الثانية عشرة مغربا، وتكون الشمس إذ ذاك قد بدأت في الأفول...، فيبدأ السكان بضبط ساعاتهم ماركة «أم صليب». وفي تلك اللحظات كان ينطلق الأذان من مسجد الإمام تركي بن عبد الله، أي «الجامع الكبير»، بصوت الشيخ الراحل عبد العزيز بن ماجد، أقدم مؤذن في الرياض، معلنا دخول وقت صلاة المغرب، لتختلط دقات ساعة الصفاة مع صوت الأذان ليسمعا معا في أغلب أرجاء المدينة. ويلي ذلك صوت نسائي يشير إلى الوقت في العاصمة السعودية، وهو مؤشر على أن صوت المرأة قبل عقود كان يشنف آذان السكان فهو ليس بعورة، كذلك ما كانت الإشارة إلى وجود «الصليب» تثير حفيظة بعض السكان الذين كانوا يضعون في معاصمهم أو جيوبهم ساعات اشتهرت – شعبيا بلا تحفظ - بماركة «أم صليب»، والمقصود بذلك الشعار الوطني لسويسرا، البلد المصنع للساعة. وكانت تلك الساعات اليدوية التي تضبط على ساعة الصفاة تعمل بالزنبرك - أي التعبئة اليدوية - الذي يعطيها طاقة عمل لمدة 24 ساعة. وعندما يؤذن المغرب في وقت ثابت مع مغيب الشمس (الساعة الثانية عشرة) بالتوقيت الغروبي، نسبة إلى غروب الشمس، كان الزنبرك يدار إلى حده الأقصى. وهذه العملية اصطلح السكان على تسميتها بمناولة الساعة للعشاء «أعشي الساعة»، أي إمدادها بالطاقة لتشغيلها ليوم كامل، قبل وجود البطاريات في الطرازات العاملة بحركة الكوارتز، المألوفة اليوم.

ذكريات جميلة جدا ارتبطت بساعة الصفاة في أفئدة سكان الرياض وذاكرتهم، خصوصا كبار السن منهم، إذ لا تزال آذانهم تحتفظ بتسجيل دقاتها التي كانت تسمع في كل أرجاء المدينة، المحدودة السكان آنذاك. وبالذات، عندما يسدل الليل ستاره على شوارعها المحدودة ومنازلها الطينية، وبذا كانت تلك الدقات تقطع سكونها وهدوءها.

أيضا ارتبطت ساعة الصفاة بـ«الساعة البيولوجية» لسكان الرياض الذين كانوا ينصرفون من وسط المدينة وسوقها الشعبية الوحيدة، «سوق المقيبرة»، عندما تدق الساعة الثانية عشرة مساء، ساعة الغروب، بالتوقيت السائد آنذاك، معلنة انقضاء نهار حافل بالركض والعمل والكفاح... وبداية ليل جديد، لتعاود الساعة دقاتها وبصوتها الأنثوي كل 60 دقيقة طوال اليوم.

خلال هذه العقود الأربعة أصيبت الساعة بالخرس وظلت هكذا لسنوات صامتة، فلم يعد يسمع السكان دقاتها المميزة والصوت الأنثوي الذي ينبعث منها ويغطي سماء المدينة معلنا: «الساعة الآن في الرياض..... و..... دقيقة، دن دن دن». وعند كل صوت يتطلع البعض إلى الساعة التي يطوق سوارها معصمه، وأغلبها ماركة «أم صليب»، فيطابق عقاربها مع توقيت ساعة المدينة التي هي عنده لا تقل شهرة عن ساعة «بيغ بن» اللندنية.

هذا، ونظرا لأهمية ساعة الصفاة كمعلم معماري – ثقافي، قبل العقود الأربعة الماضية، تصدرت صورها مع صور برج مياه الرياض - الذي يحتل موقعا غير بعيد عن الساعة - ومعهما عمارة البرج، واجهات «الكتيبات» و«المنشورات» التي طبعت خلال تلك الحقبة الزمنية عن العاصمة السعودية.

غير أن هذه المعالم، ومنها طبعا ساعة الصفاة، غدت من إرث الماضي، ولا سيما بعدما برزت معالم معمارية وثقافية أخرى في المدينة، وبصورة لافتة. كذلك ما عادت الساعة تستهوي الجيل الجديد أو تستوقفهم، في حين أن كثيرين من كبار السن، أو حتى من تجاوزوا العقد الخامس من العمر بقليل، لا بد أن يقفوا بصورة لا إرادية عندما يمرون بالقرب من الساعة، وأن ينظروا إليها بكثير من الحنين إلى الأيام الخوالي.