«سوق البركة» في تونس.. حيث يهزم بريق الذهب شطط الأسعار

خصوصا مع اقتراب فصلي الربيع والصيف لتوفير احتياجات الزفاف

في سوق البركة تدفع العائلات الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على تقاليد ظلت مرافقة لفرحة العمر («الشرق الأوسط»)
TT

تسطع القطع الذهبية وسط الأنوار المتلألئة التي أرادها «الصايغية» (الناشطون في قطاع الذهب) طريقة ناجحة في جلب انتباه الزائرين لـ«سوق البركة» بالعاصمة التونسية تونس. ولا يكاد المرء يطل أمام أحد محلات السوق المتخصصة بتجارة الذهب العريقة في تونس إلا وتجتذبه عائلات بأكملها وهي تمعن النظر وترصد بعين الشغف ما هو معروض في الواجهات البلورية، وكلها مصوغات بديعة تأسر القلوب وتسيل اللعاب وتغري بالاقتراب رغم ثقل أسعارها على الجيوب.

مع اقتراب فصلي الربيع والصيف تخرج العائلات التونسية فيما يشبه الغزوات لتأمين احتياجات العرائس من الذهب الخالص، وشراء المصوغات، تقليديا، عند مختلف العائلات ومن شتى الطبقات محطة ضرورية لإتمام مراسم الزواج. وهذا، حتى إذا عمدت بعض العائلات إلى مراوغة بعضها البعض عبر اتفاقات لا يعلن عنها، فيصار إلى التغافل عن الذهب الخالص والاستعاضة عنه بالذهب المقلد. والواقع أنه قلما يقع الاتفاق حول ما يسميه بعض علماء الاجتماع بـ«الكذبة البيضاء» ولكن واقع العسر الذي يحل على بعض العائلات يجعلها تبحث عن مخرج يرضي أهم طرفين في عملية الزواج، والمقصود بذلك العائلتين المتصاهرتين.

ومع أن أسعار الذهب شهدت ارتفاعا صاروخيا خلال السنوات الأخيرة، وبات سعر الغرام الواحد من الذهب لا يقل في كل الأحوال عن 70 دينارا تونسيا (نحو 50 دولارا أميركيا)، فإن الأعين ذاتها لم تمنع نفسها من مواصلة التدفق على «سوق البركة»، وهي تدفع الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على تقاليد ظلت مرافقة لفرحة العمر. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بعض العائلات تعتبر المصوغات المصنوعة من الذهب الخالص من وجهات الادخار المفضلة. ذلك أن بعض المتزوجين يجدون في الذهب المصوغ باب خلاص في حال تأزمت أوضاعهم الاقتصادية بعد الزواج، أو عزموا على الدخول في بعض المشاريع الاقتصادية التي تتطلب تمويلا قد لا تقدر عليه العائلة المكونة حديثا.

من جهة ثانية، ما زالت بعض العائلات في الساحل الشرقي التونسي أو من سكان جزيرة جربة، التي أخذت بعض تقاليدها من الجالية اليهودية في التعامل مع الذهب والمجوهرات، تشترط «غربالا» كاملا من الذهب قبل العزم على الزواج، وتمرر بعض الجدات حليها إلى جيلي الأبناء والأحفاد في محاولة لإعانتهم - وإعانتهن بالأحرى - على الأعباء الجديدة لتكوين عائلة منسجمة.

ولئن أبدت بعض العائلات التونسية، وبالأخص هذه الأيام، تذمرا كبيرا من ارتفاع أسعار الذهب الخالص، فإنها مع ذلك لا تتوانى في «إرهاق» ميزانياتها من أجل تأمين الذهب لأبنائها المقبلين على الزواج. ولعلها ما زالت تحتفظ ببريق الذهب في أذهانها، وفي اقتناعها الراسخ أنه ملاذ آمن لقسط من المدخرات التي لا تطالها المشاكل مهما كان نوعها. فالذهب في عرفها يظل بمنأى عن كل الهزات الاقتصادية.

عائلات كثيرة لا تود أن تتذكر تلك «الفترة الذهبية» لأسعار الذهب حيث لم يكن سعر الغرام الواحد يزيد عن 20 دينارا (نحو 15 دولارا)، وهي اليوم ربما تعض الأصابع ندما على أنها لم تتجه إلى «سوق البركة» حينذاك للتزود بكمية من الذهب قد تكون أجمل استثمار للمستقبل.

حول ارتفاع الأسعار وتأثيره على الإقبال على اقتناء الذهب، قال لطفي الريحاني، وهو صاحب محل في سوق الذهب، لـ«الشرق الأوسط» خلال حوار معه: «للذهب زبائنه، وهو سلعة لا يمكن أن يبخس حقها مهما اشتدت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ولئن أثرت الثورة قليلا في مستوى الإقبال فإن سوق البركة استرجعت جانبا مهما من بريقها خلال بداية السنة الجديدة».

وأضاف الريحاني موضحا «نحن ننتظر الآن أن تسترجع السوق مزيدا من حيويتها بعد عودة الأمن والاستقرار إلى البلاد، واسترجاع التونسيين إيقاع حياتهم الهادئة وإقبالهم الطبيعي على الحياة». وبشأن الارتفاع القياسي للذهب بمختلف عياراته وإمكانية تراجع أسعاره خلال الفترة القادمة، قال الريحاني: إن «الأمر قد يكون مستحيلا، فكل الظروف تؤكد أن أسعاره قد ترتفع من جديد خلال الصيف الآتي. إن الغرام من الذهب عيار 18 يباع حاليا بسعر يتراوح بين 70 و76 دينارا تونسيا (ما بين 50 و55 دولارا) وربما يتجاوز حدود الـ90 دينارا (نحو 65 دولارا) مع حلول موسم الأفراح والمسرات.

من جهتها أشارت صبرين الهمامي، وهي زبونة كانت تشتري في سوق البركة، إلى أن «ارتفاع أسعار الذهب قد يجبر بعض الفئات الشبابية على تأجيل الزواج»، إلا أنها تعتبر أن شراء المصوغات «مسألة ضرورية، إذ تعبر المصوغات الذهبية عن قيمة العروس لدى عائلة العريس. وكلما كانت غالية الثمن عكست كم قيمة العروس عالية عند ذوي عريسها». وأضافت صبرين قولها «لا مجال للتنازل عن الذهب خلال موسم الزواج، فمعظم النساء التونسيات نادرا ما يحصلن على مثل هذه الكميات من الذهب إلا مرة واحدة في حياتهن، وكثيرات منهن ينتظرن فرحة العمر... فكيف يمكن التنازل عن تلك الفرصة التي قد لا تأتي إلا مرة واحدة؟» على حد تعبيرها.