«العبرة» والنوارس بين ضفتي الخور في دبي

100 ألف شخص يعبرون يوميا على متن «العبرات» بين الديرة والشندغة

بين دفتي الخور في دبي لوحة فنية طبيعية («الشرق الأوسط»)
TT

عندما تحلّق النوارس فوق رؤوس العابرين على «العبرة» أو «العبرات» - تلك القوارب الصغيرة، كما يحلو للإماراتيين أن يطلقوا عليها بلهجتهم الدارجة - يتحوّل مشهد العبور بين ضفتي الخور في دبي إلى لوحة فنية طبيعية نفذتها ريشة فنان عظيم. تتلون هذه اللوحة، بأشعة الشمس وثياب العابرين من جميع أطياف لون البشرة والجلد، مائتي جنسية من القاطنين، وما يفد عليها من جنسيات السياح، على مدار النهار والليل، ليس من أجل الرفاهية والسياحة فحسب، بل من أجل العمل والعيش أيضا. آلاف العمال وبسطاء الموظفين والمتسوقين يركبون العبرات، الوسيلة العملية الأسهل والأرخص بين أسواق الديرة والشندغة. 100 ألف راكب يعبرون بين الضفتين كل يوم. ولمن لا يعرف جغرافية دبي، عليه أن يتذكر أن الخور هو لسان بحري يشبه النهر، يشق المدينة إلى نصفين، وهو الملجأ الآمن والسكن الهادئ، بعيدا عن عواصف البحر وأهواله، فقد منحت الطبيعة هذه الألسنة البحرية لأهالي دبي، على امتداد خمسة عشر كيلومتر، من صيادي الأسماك واللؤلؤ عندما كان النفط ذهبا غير مكتشف في باطن الأرض. تُصنع هذه العبرات من أخشاب نادرة وغالية الثمن تستورد من أفريقيا والهند، وخاصة الجزء الخارجي منها الغاطس في البحر، حيث يتطلب قوة الصمود ومهارة التصنيع.

يقول أحد العمال الذين يعلمون في أسواق الشندغة: «إنها وسيلة النقل الأرخص بالنسبة لي، حيث تكلفني أجرة التاكسي ثلاثين درهما، بينما لا تكلف (العبرة) سوى درهم واحد». أي إن سعر التذكرة الافتراضية يعادل ربع دولار، إذ لا توجد تذاكر بطبيعة الحال، ولكن الركاب يسلمون قبطان هذه الزوارق الأجرة المعروفة لدى الجميع. وهناك من السياح من يستأجر «العبرة» لساعة واحدة للتنزه بأجرة تبلغ مائة درهم ليجول في الخور، ويتمتع برؤية مباهج دبي والشواطئ اللازوردية.

تعمل هذه المحطات مثل خلية النحل، التي لا تهدأ ليل نهار، من أجل تأمين عملية النقل بين الشاطئين الشهيرين في دبي: الديرة وبر دبي. وتزدحم هذه المحطات بالرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، رثاث الملابس وأنيقي المظهر، لتخفف عبء الازدحام في المدينة، حيث تشكل حركة النقل هذه ثلاثة خطوط: الخط الأول من سوق ديرة القديم إلى محطة بر دبي وبالعكس، والخط الثاني من محطة السبخة إلى محطة سوق دبي القديم وبالعكس، والخط الثالث من محطة بني ياس إلى محطة السيف ببر دبي والعكس. وتعمل «العبرات» بالخطوط الثلاثة على مدار 24 ساعة متواصلة بلا انقطاع بمعدل 3500 رحلة يوميا تنقل 100 ألف راكب، والحمولة القصوى لـ«العبرة» في الرحلة الواحدة لا تتعدى 20 راكبا، وتم تحديد هذا العدد لأجل تنقل آمن ومريح للمستخدمين. وألحقت بهذه «العبرات» خدمة نقل الركاب بواسطة الباص المائي في خور دبي. و«العبرات» ساهمت في تخفيف الازدحام المروري في مدينة دبي، إذ استخدمها 25 مليون راكب العام الماضي. وتتزايد أعداد السياح، من مستخدمي العبرة كوسيلة تنقل سريع واقتصادي ما بين السوق القديمة وسوق مرشد وسوق نايف، وهي الأسواق المفضلة للسياح العرب والأجانب على حد سواء في بدء فعاليات صيف دبي هذه الأيام.

لم تتمكن دبي رغم حداثتها المزدهرة، وتطور وسائل النقل فيها من مترو الأنفاق والباصات، أن تستغني عن «العبرات»، التي ظلت الوسيلة المثلى للانتقال من ضفة إلى أخرى في المدينة. ويبلغ عددها الآن 149 «عبرة»، مُلاكها من التجار المواطنين، قبل أن تتملكها «هيئة الطرق والمواصلات» الحكومية، وتشرف على إدارتها، وأنهت عقودا من العشوائية التي سادت هذه الوسيلة المهمة من النقل البحري، حيث قامت مؤخرا بتحديث المحطات التي ترسو عليها، وترميم ما تآكل منها بفعل الأقدام الذاهبة والآتية.

في الواقع، إن مرور «العبرات» وسط الخور التي تشبه السفن الشراعية التي تمخر البحر أيام زمان يعكس جماليات البحر وأساطيره، وما يبعثه من ترسيخ لواحدة من أهم وسائل النقل التراثية التي ميّزت دبي لعقود مضت، كما تعيد إلى الأذهان فكرة البحر اللصيقة بأهالي الخليج وأيامهم الخوالي حين كانت المجاديف تحل بدلا من المحركات التي تعمل بالوقود، رمز اللياقة البدنية والقوة العضلية والرياضة المحكمة في قطع الخور من ضفة إلى أخرى. لكن هذه المجاديف سرعان ما اختفت من المنظر، ولكن القوارب ظلت تُثير الأمواج الهادئة، بمحركاتها بعد أن كانت تتقاذفها العواصف في الماضي.

أصبحت «العبرات» مظهرا سياحيا وتراثيا، من الطراز الأول في دبي، ولكنه في الواقع لا يزال يثير الذكريات تلو الأخرى عن تأسيس هذه المدينة على ضفاف البحر، وما عاناه أهالي دبي من شظف العيش آنذاك، حين كان البحر مورد رزقهم الوحيد. وحين ينظر بعض أهالي الديرة والشندغة من نوافذ بيوتهم المطلة على ضفاف الخور، تعيد هذه «العبرات» إلى أذهانهم تاريخا من ذكريات البحر، الحزينة والمبهجة، حين كانوا يغامرون بحياتهم من أجل رحلات الغوص، والبحث عن المحار واللؤلؤ. ومن أجل رصد هذا المنظر، ينتشر بعض الرسامين لكي ينقلوا بريشتهم طيور النوارس وهي تحلّق عاليا على رؤوس ركاب «العبرات»، في محاولة لتقليد الطبيعة على الورق أو قماشة الرسم، فهل يمكن رسم ما يجول في نفوس هؤلاء الركاب وما تحلم به النوارس؟!