«سوق نايف» بدبي تضاهي بومباي في ازدحامها وبضائعها وأجوائها

أعيد ترميمها بعد حريقها الشهير بجذوع الشندل ومواد البناء القديمة في حلة جديدة

«سوق نايف».. تراث تجاري ناطق في قلب دبي («الشرق الأوسط»)
TT

عندما يتوغل الزائر في «سوق نايف»، وهي إحدى أقدم أسواق دبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، يشعر بأنه يتجول في سوق من أسواق الصين وإندونيسيا والهند وتايلاند مجتمعة، فكل بضائع هذه البلدان تأتي على متن البواخر حسب أذواق المستهلكين. ويتوافد الزوار والمتبضعون والمستهلكون من جميع أنحاء العالم، ومن جميع الفئات الاجتماعية ومختلف الجنسيات، على هذه السوق التراثية لأنها توفر بضائع رخيصة الثمن من الملابس والأقمشة والأحذية وملابس الأطفال والحقائب والعطور والبخور ومستحضرات التجميل، وكذلك الإلكترونيات والأثاث والمستلزمات المنزلية والسجاد وألعاب الأطفال وغيرها.. مما جعلها تحمل سمات «البازار» العربي القديم بامتياز.

وتشتهر هذه السوق، التي يسيطر عليها التجار الإيرانيون والهنود بالدرجة الأولى، بما يطلق عليه هنا مسمى «المكاسرة»، أي المساومة والمفاصلة بشأن الأسعار مع الباعة، فالشاطر يمكن أن يخفض الأسعار إلى النصف أو الثلث، وكل ذلك يعتمد على «شطارة» المستهلك وذكائه! غير أن غالبية الزوار لا يأتون إلى «سوق نايف» للتبضع فحسب، بل يأتون أيضا لكسر رتابة المتاجر الحديثة الكبرى، أي «المولات» - المنتشرة في دبي. فهنا يجد المستهلك كل شيء من الحرير الكوري إلى الهاتف الجوال الصيني، ومن العطور إلى البخور بأسعار رخيصة. أما القماش الصيني فهو أكثر البضائع انتشارا، وتبدأ أسعار المتر منه من خمسة دراهم. وتقبل الأمهات على هذه السوق بكثافة لأنهن يجدن ملابس الأطفال بأسعار مغرية. وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت «أم حسن»، وهي سيدة لبنانية: «هنا أستطيع أن أجد قطعة ملابس لأطفالي بعشرة دراهم بينما سعرها في (المول) يتراوح بين 80 و100 درهم، مع أنها البضاعة نفسها لكنها معروضة بطريقة أخرى». والشيء نفسه يصدق على جميع السلع، وخاصة الألعاب التي يستهلكها الأطفال بصورة دائمة.

من ناحية ثانية، ما عادت «سوق نايف» كحالها في الماضي مقتصرة على الزبائن المحليين والمقيمين، بل أصبحت ملاذا للسياح الأجانب الغربيين، وخاصة الروس والأفارقة، الذين يجدون فيها ضالتهم المنشودة وكأنهم يتجولون في «سوق بومباي» مصغرة - كما يقول بعضهم مازحا - لأنها تضاهيها في ازدحامها وبضائعها وأجوائها.

وتزدحم «سوق نايف»، بالأخص، أثناء فصل الصيف عندما يتهيأ المقيمون للسفر إلى بلدانهم. وبناء عليه يتسوقون الهدايا من هنا، وعلى رأسها ما يجدونه من المنتجات ذات العلامات التجارية العالمية الشهيرة، بمختلف أصنافها، لكنها مقلدة طبعا، وهذا مع العلم أنه لا يمكن تفريقها عن المنتجات الأصلية إلا بعد الاستعمال. ثم هناك البضائع الفاخرة فعلا، التي يحتفظ بها البائعون في الداخل، لكنهم يعرضونها على بعض زبائنهم الخاصين لإغرائهم واستدراجهم إلى داخل محلاتهم.

أطلق على هذه السوق اسم «سوق نايف» بسبب تموضعها حول «قلعة نايف» الموجودة في منطقة ديرة، إحدى المنطقتين اللتين تكونان مدينة دبي، مع منطقة بر دبي. وهي تحمل أيضا اسم «سوق الصنادق» بسبب تلاصق محلاتها جنبا إلى جنب. وكانت «السوق» قديما مركز النشاط الاقتصادي في دبي بفضل موقعها قرب شاطئ البحر، مما يسهل عمليات النقل، ما بين ديرة وبر دبي. وقد شيّد على مراحل في حقب زمنية مختلفة وازدادت محلاتها بمرور الزمن. ومن ثم أضفي على المدينة سماتها من خلال التمازج الكبير بين الدور السكنية والتجارية، مثل غيرها من الأسواق الأخرى، وأشهرها: «سوق الموضة» و«سوق الحرير» و«سوق اللؤلؤ» و«سوق الملابس» و«سوق الذهب» و«سوق الأطعمة» و«سوق السمك». غير أن بعض الناس لديهم لقب آخر لهذه السوق هو «سوق العنقاء» لأنها عادت إلى الحياة بعد كارثة الحريق التي أتت عليها نهائيا عام 2008، ونجم عنها احتراق 184 محلا فيها بسبب البضائع القابلة للاشتعال، وخاصة الأقمشة الخام والثياب. وهو ما ساهم في امتداد ألسنة النيران في المحلات المتجاورة والمتلاصقة لتطال نحو 85 في المائة منها. والواقع أنه لم يكن ممكنا إنقاذ سوى 14 محلا فقط.

بعد هذا الحريق المدمر استبعد عارفو السوق أن تعود إلى حالتها الأولى. لكنها عادت، وبحلة تراثية أجمل من السابق، كما ازداد عدد محلاتها إلى 266، وروعي في إعادة بنائها أن تشيد على طابقين وسرداب على نمط البناء الإماراتي القديم، واستخدمت في ترميمها جذوع الشندل، وهو الخشب الصلب المستورد من أفريقيا، وبمواد البناء القديمة. ويعود الفضل في ذلك إلى إدارة التراث العمراني بدبي، متمثلة في مديرها المهندس رشاد بوخش، الذي حرص على إعادة بنائها وترميمها ورفض أن يبنى في مكانها برج سكني أو تجاري أو أي مجمع عمراني آخر. وهو يقول بهذا الصدد «لقد حرصنا على إعادة ترميم (سوق نايف) بالكامل، لأن الأسواق كانت وما زالت صفة متميزة من صفات دبي، فكيف نفرط بهذا الإرث الحضاري؟!».

ثم يضيف «لو عدنا إلى التاريخ، لوجدنا أن دبي كانت معروفة بأسواقها منذ القرن الحادي عشر، كما تذكر المراجع الإيطالية والهولندية والبريطانية. ويعود أساس الأسواق في امتدادها إلى عمق الحضارة الإسلامية، في خط رئيسي من الأسواق والحوانيت المنتشرة على الجانبين. ولقد عملنا على إعادة تشكيل الأسواق القديمة بصورة جمالية وتراثية أصيلة عبر رفع كل ما يسيء إلى جمالياتها، مثل المصابيح الظاهرة في أعلى الحوانيت، وكذلك تغيير الأبواب المصنوعة من الألمونيوم إلى أبواب خشبية تقليدية لكي تنسجم مع روح المكان التراثي».

وهكذا، بقيت «سوق نايف» اليوم القلب النابض في دبي، تنشر عبق الشرق ونكهته الفريدة، بطرازها وعطورها وتوابلها وبضائعها، بين «المولات» الحديثة والأبراج الشاهقة.