العم حسني.. صانع «النداغة» يتحسر على زمانها

يمارس مهنته في إحدى حارات القاهرة ويشكو تراجع الإقبال عليها

TT

بين الحارات في منطقة الفجالة، بوسط العاصمة المصرية القاهرة، يتخذ هذا المصنع البسيط مكانه منذ 150 سنة. وقد كان في الأساس مصنعا للطحينة، ثم للبسكويت، وذلك في الفترة بين عامي 1870 و1940، ثم توسع العمل فيه فبات يشمل صناعة حلوى المولد النبوي والملبن والنداغة (العسلية).

في هذا المصنع، الذي يحمل حاليا مسمى «المجد»، يقف أشهر مصنعي النداغة (المحرفة من المضاغة) وهو العم حسني عبد الباسط (65 سنة)، ليمارس مهنته في صناعة هذه الحلوى الشعبية الشهيرة، التي تربت عليها غالبية المصريين صغارا وكبارا، ولكن ما عاد سوى هذا المصنع يغامر بصناعتها.

وقال العم حسني لـ«الشرق الأوسط»، عندما التقيناه «كان الاسم القديم للمصنع هو (النخلة والشيخ) نسبة إلى وجود مقام أحد الأولياء ونخلة بجوار المصنع، الذي يرجع تاريخه لأكثر من 150 سنة وسط المباني التي يشغلها حاليا. وكان والدي رائد صناعة النداغة في مصر قبل 80 سنة، وكان يعمل معه 30 عاملا وموظفا، أما اليوم فلم يعد يعمل في المصنع سوى 3 أفراد وأنا رابعهم».

وقال العم حسني إن فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي «شهدت وجود الرعيل الأول لصناعة النداغة في مصر، أو شيوخ المهنة، أمثال مرجان والتكاوي والسرودي وأحمد فؤاد إلى جانب والدي عبد الباسط.. وجميع هؤلاء كانوا يتركزون بين الحارات في منطقة الفجالة وحي باب الشعرية تحديدا. ثم امتدت الصناعة إلى مدينة طنطا، ومن بعدها أصبحت منتشرة بكثرة في أرياف مصر وصعيدها». وتابع «يعد فصل الشتاء موسم رواج العسلية - أو النداغة - نظرا لأنها تمد الجسم بالطاقة بسبب العسل، بعكس أشهر الصيف عندما يقل الإقبال على شرائها واستهلاكها، بسبب ارتفاع طاقة جسم الإنسان داخليا بما يجعله في غنى عن العسلية».

أما عن دخوله مجال صناعة النداغة، فروى «العم» حسني «أول مرة شاهدت فيها صناعة النداغة كانت قبل انطلاق ثورة 1952. وكنت آنذاك طفلا صغيرا عمري خمس سنوات، ويومها شاهدت والدي يصنع بنفسه النداغة يساعده عدد كبير من العمال. وكانت النداغة هي الحلوى المفضلة لدى كل الأطفال. وعندما التحقت بالمرحلة الابتدائية كنت آخذ النداغة معي المدرسة وأعطيها لزملائي».

وبسؤاله عن اسم النداغة، أجاب بابتسامة «أتذكر أنني سألت والدي وأنا صغير عن معنى (النداغة)، فقال لي إن الفاطميين كانوا أول من صنع النداغة وأطلقوا عليها هذا الاسم الذي توارثناه عبر الأجيال، وكان في الأصل (مضاغة)، ثم تحولت الكلمة إلى (نداغة)، وهي مستوحاة من (مضغ) العسلية وامتصاص عصارات العسل الأسود فيها».

العم حسني واصل كلامه، فقال إنه بمرور الوقت بدأ في مساعدة والده، حتى أصبحت صناعة النداغة هي كل حياته، وأشار إلى أن «مراحل صناعة النداغة متعددة، وتحتاج إلى مجهود شاق. أما مكوناتها فهي العسل الأسود وعسل الغلوكوز والسكر. وفي البداية يجري خلط المكونات الثلاثة بنسب مختلفة ووضعها في إناء كبير يتسع لأكثر من 200 كلغم، ويصار إلى طهو الخليط لمدة 45 دقيقة. ثم تأتي مرحلة سكب هذا الخليط على رخامة طويلة بعد دهنها بزيت البارافين لمدة 10 دقائق وتركها في الهواء. ثم تأتي مرحلة (القدّ) بواسطة (المقدّ الكهربائي)، والغرض منها تفريغ النداغة من الداخل من أي مسام أو هواء، ويعقبها (قدّ) يدوي من خلال تعليقها في مسمار بالحائط وفردها وثنيها للتأكد من تفريغها تماما. ومن ثم يُصار إلى قطعها بالمقاسات المطلوبة، وبعدها تأتي مرحلة (التتريب) أي تغطيتها بالمكسرات والسمسم، حسب طلب الزبون، وأخيرا تأتي مرحلة التعبئة والتغليف».

زبائن النداغة - كما يقول العم حسني «كانوا في السابق من تجار الجملة وأصحاب المحال التجارية، وكان المصنع يعمل ليلا ونهارا لتلبية احتياجاتهم، لكن بمرور الوقت وظهور مصانع الحلويات الكبرى قل عدد الزبائن، وأصبحت غالبيتهم من التجار الجوالين، الذين يتنقلون بالنداغة في وسائل المواصلات المختلفة».

ثم أردف بأسى ظاهر «للأسف الشديد، المحلات الكبيرة التي دخلت مجال صناعة الحلويات قضت على صناعتنا، وهو ما يجعلني أتوقف عن العمل وغلق المصنع لفترات طويلة قد تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من أسبوعين، لتعذر الإيفاء بحاجة العاملين الثلاثة معي الذين كانوا يعملون مع والدي.. ثم إن قلة الإقبال على النداغة خلال أشهر الصيف سبب آخر في توقفنا، وهو ما يضطرنا إلى صناعة (المصاصة) إلى جانب النداغة».

وقبل ختام اللقاء، لم ينس العم حسني أن يبدي استياءه من «ارتفاع أسعار المواد الخام وغلاء أسعار أسطوانات الغاز وقلة توافرها، وإحجام الحكومة والاتحادات التجارية والصناعية عن تقديم الدعم المطلوب»، مضيفا «..لكل هذه الأسباب ما عادت المهنة تدر عائدا علي أو على أسرتي، لكنني لا أملك في هذه السن الكبيرة تغييرها، ولا تستطيع أي من بناتي مشاركتي في العمل، إذ ليس لدي أولاد ذكور أعتمد عليهم كما كان والدي يعتمد عليّ».

وأخيرا صمت لبرهة، ثم ختم كلامه بالقول «لأن حال البلد مش حلو.. أصبحت صناعتنا مش حلوة وفي النازل».