المكتبة الوطنية في بعقلين.. من سجن إلى صرح تراثي وثقافي

أدخلت لبنان العام الماضي «موسوعة غينيس» من باب تشجيع المطالعة

مبنى المكتبة الكلاسيكي الجميل («الشرق الأوسط»)
TT

عرف الإنسان القراءة والكتابة منذ آلاف السنين، وعن طريقهما استطاع أن ينقل كل معارفه من جيل إلى آخر. وفي ظل الصراع القائم بين القراءة والتكنولوجيا الحديثة في مجتمعاتنا، المتجلي في بعض وجوهه بتراجع انتشار الكتاب وتدني الإقبال على القراءة مقابل الإقبال على وسائل الترفيه التكنولوجية وشبكات المعلومات الرقمية، اختارت مكتبة بعقلين الوطنية في لبنان مبدأ «الإعارة المفتوحة» من دون أي مقابل مادي. وهذا، فضلا عن اعتمادها مجانية الخدمات بداخلها، مع محافظتها على ما تحتويه من تراث لبناني وعربي وعالمي، وباللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، تاركة للزمن وحده مهمة وضع نهاية لذلك الصراع.

غازي صعب، مدير المكتبة، قال لـ«الشرق الأوسط» خلال زيارتنا للمكتبة: «المكتبة الوطنية في بعقلين مكتبة عامة متعددة الوسائط، ومركز ثقافي مجتمعي مهم، لما تقدمه من خدمات ولما تحتويه من مصادر وأوعية معلومات. وهي منذ تأسيسها وضعت خدماتها بتصرف اللبنانيين من مختلف الفئات والأعمار مجانا»، مضيفا أن «تيسير الوصول إلى المعارف، بمختلف أنواعها وأشكالها، أفسح المجال أكثر لنشر الوعي القرائي وتنمية الاتجاهات الإيجابية نحو القراءة وتجذير عادة المطالعة».

اللافت في المكتبة، التي تقع في بلدة بعقلين - البلدة العريقة في قلب منطقة الشوف بجنوب جبل لبنان، تسجيلها رقما قياسيا خلال العام الماضي في مجال تبادل الكتب، تمثل بنشاط امتد لثماني ساعات جرى فيه تبادل 1440 كتابا. وبذا دخلت «كتاب غينيس للأرقام القياسية»، مثبتة بهذا الإنجاز غير المسبوق، أنها منارة للعلم والثقافة والتفاعل الخلاق بين أفراد مجتمعها.

ولكن، كيف كانت البداية؟

في زمن عصيب إبان الحرب اللبنانية، عندما كانت لغة البندقية هي اللغة التي يتقنها الجميع، أخذت ملامح المكتبة تتبلور، ومن ثم أسست عام 1987 في مبنى «سراي بعقلين»، ذي التصميم المعماري البديع، الذي كان قد استخدم ردحا من الزمن سجنا. ويعكس المبنى صور الفن المعماري الكلاسيكي الذي اعتمده نعوم باشا، متصرّف (حاكم) جبل لبنان بين عامي 1892 و1902، في معظم «السرايات» التي شيدها كمظهر من مظاهر محبته للعمران والعمارة.

المبنى التاريخي كان قد دشن عام 1897 ليكون مركزا للحكم المحلي، ولاحقا استخدمته الدولة اللبنانية مدرسة وكذلك مركزا لبلدية بعقلين، ومحكمة (قاض منفرد) على مراحل مختلفة، ثم أنشأت فيه مخفرا لقوى الأمن الداخلي وسجنا فرعيا حتى يونيو (حزيران) 1982 (تاريخ الاجتياح الإسرائيلي للبنان)، وظل شاغرا حتى عام 1987 تاريخ افتتاح المكتبة.

وعن كيفية تحول السجن السابق المهمل إلى مكتبة وطنية، أوضح صعب أن «المحافظة على القيمة الأثرية للمبنى كانت الحافز لدى النائب وليد جنبلاط (رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي) لجعله منارة إشعاع، وذلك بعدما تولى ترميمه وتعديله من الداخل على نحو يستجيب لحاجات مكتبة عامة. ومن ثم اشترى لملئه الكثير من المكتبات الخاصة، وما زال حتى اليوم يزود المكتبة بما يصله من كتب».

يوم الثالث عشر من مارس (آذار) عام 1987، أبصرت «المكتبة الوطنية» في بعقلين النور، ليخوض جنبلاط بعدها مسيرة طويلة مع الدولة بهدف حماية هذا الصرح الحضاري، وبالفعل، أصدرت الحكومة قرارا بجعل المكتبة مؤسسة تابعة لوزارة الثقافة في عام 1996. واعتبارا من عام 1997، تعاقدت الوزارة مع العاملين في المكتبة، وجميعهم يتمتعون بخبرات ومؤهلات علمية عالية، إلى جانب تأمين الدعم المادي والمعنوي الذي توفره «جمعية أصدقاء المكتبة الوطنية» ومؤسسات المجتمع المدني.

اليوم تضم المكتبة ما يزيد على 105000 كتاب، معظمها باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، و280000 مطبوعة دورية، بالإضافة إلى جميع الصحف اللبنانية اليومية وأهم المجلات اللبنانية والعربية والعالمية، وعدد كبير من المراجع القديمة والمعاصرة (من قواميس ومعاجم وأدلة وموسوعات) باللغات الثلاث، فضلا عن أنها تضم قسمي الباحثين والروايات العالمية، ومعظم موجوداتها قابل للإعارة. وتبعا لإحصاءات المكتبة، قصدها عام 2011 نحو 40000 زائر، توزعوا مناصفة بين الرواد العاديين والمشاركين في النشاطات السنوية، على اختلاف عناوينها، و«يتفاوت الإقبال طبعا حسب الفصول الأربعة، والمناسبات، والسنة الدراسية»، بحسب غازي صعب.

وتشتمل «المكتبة الوطنية» في بعقلين فعليا مكتبتين رئيسيتين هما: المكتبة العامة ومكتبة الأطفال والناشئة، وهذا بجانب القاعة الكبرى التي تتميز بغنى المحتوى والنوعية، وقاعة الكومبيوتر والإنترنت. أما قسم التوثيق والأرشيف في المكتبة، فيعمل على توفير مصادر المعلومات ويسعى إلى تجميع الوثائق وتصنيفها، في حين يعتبر قسم التصنيف والفهرسة العمود الفقري للمكتبة. وهو يعتمد على نظام «ديوي» العشري في فهرسة أوعية المعلومات (من كتب ودوريات وخرائط، إلخ)، ونظام خاص يدعى «بيريتوس»، وتنظم المكتبة دورات تدريبية للمفهرسين من أجل ضمان دقة العمل والتنظيم.

وردا على سؤال، أجاب صعب «يشكل جناح الكتب النادرة استثناء لمبدأ الإعارة، وهذا لكي تبقى هذه الكتب الثمينة بمنأى عن الضرر أو التلف. إن بعضها قديم وذو تجليد مزخرف بالنقوش، وبعضها الآخر مطبوع قبل عام 1960، وهناك فئة ثالثة من الكتب تحمل كتابات بخط مؤلفيها».

ثم هناك مكتب معلومات اللغة الإنجليزية، وهو يضم عددا كبيرا من الكتب والمراجع والفهارس والمنشورات والقواميس، ولقد خصص لمساعدة مدرسي هذه اللغة في المدارس الرسمية والخاصة، على مواكبة طرق التدريس الحديثة، وكذلك الطلاب الراغبين بالتزود بمعلوماته.

وإيمانا من القائمين على «المكتبة الوطنية» بأهمية التطور، فإنها أطلقت في عام 2001 ما سمته «المكتبة الجوالة» بهدف إيصال الخدمات مجانا إلى من يتعذر عليه الانتقال إلى قاعاتها. وفي يوليو (تموز) من عام 2007، شهدت افتتاح «الملتقى الثقافي الأميركي»، وهو مركز معلومات مخصص للتعرف إلى مصادر الثقافة العالمية من خلال الكتب والموسوعات والأفلام والأقراص المرصوصة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن معظم من يرتادون المكتبة هم من تلامذة المدارس وطلاب الجامعات والباحثين. وهي تعد سنويا برامج خاصة لاستضافة المحاضرات والندوات والنشاطات المتنوعة، منها برنامج «التعريف بمتعة القراءة» الذي أعد قبل خمس سنوات بهدف تشجيع ثقافة القراءة كوسيلة للتعلم، وكطريقة حرة ومسلية لاكتشاف العالم.

وفي ختام اللقاء، أعرب غازي صعب عن ثقته بتوسيع نطاق نشاطات المكتبة خلال أشهر قليلة، مع إنجاز «المجمّع الثقافي» التابع لها، الذي يضم مسرحا متكاملا يتسع لـ550 مقعدا.