تونس: الرعاة فئة اجتماعية منسية

مدينة سبيطلة التونسية نظمت لهم مهرجانا للاحتفال بطقوس المهنة

مهنة الرعي صعبة للغاية فهي تتطلب دراية واسعة بطبائع الحيوان الذي ترعاه وتتطلب الكثير من الصبر والحكمة
TT

ليس من السهل تناول موضوع الرعي والرعاة دون الخوض في تفاصيل حياة فئة اجتماعية تسير ببطء نحو الندرة، فالفئات الاجتماعية الحديثة توجهت بصفة كبيرة نحو التعليم، وقلت أعداد الرعاة وبات من الصعب أن يعثر أصحاب قطعان الماشية من أبقار وأغنام وماعز وإبل على راع من الرعاة ليسلمه ما يملك في كثير من الأحيان.

ولإحياء هذه الثقافة الاجتماعية، نظم المركز الثقافي الجبلي بالوسايعية من محافظة القصرين الواقعة وسط غرب تونس الدورة الأولى لـ«عيد الرعاة» وهي المرة الأولى التي يتم الاحتفال فيها بمثل هذه الفئة الاجتماعية المنسية والتي لها تأثير قوي على الحياة الاجتماعية والاقتصادية التونسية في تونس.

الجبال والغابة والصحاري والبراري تمثل الفضاء الأمثل للرعاة على الرغم من ظاهر الوحشة والقفار التي تحيط بتلك المواقع. فالكثير من التونسيين العاديين لا يقدرون على الدخول إلى تلك المسالك الوعرة والأودية السحيقة والكثبان الرملية الموحشة ولا تجد غير الرعاة وبعض المغرمين بالطبيعة ممن يدخلونها ويخرجون منها بسلام.

يقول ميلود بن موسى أحد الرعاة القدامى، إن مهنة الرعي صعبة للغاية فهي تتطلب دراية واسعة بطبائع الحيوان الذي ترعاه وتتطلب الكثير من الصبر والحكمة في التعامل مع حيوان غالبا ما تكون حركته غير متوقعة. ويضيف في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن رعاية الحيوانات والمحافظة عليها من الذئاب تتطلب من الراعي الفطنة وحسن التدبير في وضعيات صعبة ولكن الرعي في نهاية المطاف مسألة على غاية من اللطف لأصحاب العقول الكبيرة على حد تعبيره. فالراعي يتأمل مخلوقات الله ويرى ما ترسمه الطبيعة أمامه من حسن ومن إعجاز، ولا شك حسب ميلود أن الاختلاء إلى نفسه والتأمل في الطبيعة غالبا ما يصفي الذهن ويحسن الطباع.

الرعاة يستقبلون ابتسامة الفجر ويودعون اليوم عبر الشفق الأحمر القاني، يدركون أهمية الماء ويحتفظون بعلاقات وطيدة مع عالم الحيوان وغالبا ما يربطون علاقة خاصة مع كلاب من نوع خاص. يتبعون خطى الحيوان ويدركون طباعه ويربطون ناقوسا مجلجلا في رقبة الماعز على وجه الخصوص حتى يعرفون مصيرها بعد أن تتوغل داخل الغابات الكثيفة. والرعاة يعرفون الكثير من أسرار الأعشاب الطبية ويتداوون بالكثير منها كما أنهم يدركون خصائص الكثير من الحشائش ويتناولون البعض منها حين يدركهم الجوع وهو ذات مفعول إيجابي على الصحة والعافية.

ويرى عدنان الهلالي صاحب فكرة الدورة الأولى لعيد الرعاة أنها مناسبة نادرة لإحياء المعاني العميقة لتراث الجهة وثقافتها، والمساهمة الفعالة في إحياء ثقافة عريقة تعتمد بالخصوص على تربية الأغنام والماعز منذ آلاف السنين.

ويتحدث لـ«الشرق الأوسط» بفخر عن الأماكن الحصينة الذي لا يصلها إلا المغرمون وأصحاب القلوب القوية، أو الملائكة بحكم طبيعة تدخلهم في اقتفاء أفعال البشر أينما حلوا. ويشير الهلالي إلى مسالك غابية غير مرئية يعرف الرعاة أسرارها ومزالقها وسط غابات الصنوبر الحلبي والشجيرات الغابية الكثيفة. ويحاول إبعاد التهم عن مهنة الرعاة قائلا إن الكثير من الناس ينظرون نظرة دونية إلى الرعاة والحال أن دورهم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي أكثر من مهم في الحفاظ على الثروات الحيوانية والاحتفاظ برصيد هائل من الغاني البدوية وأغاني المناجاة والعشق والغرام كذلك.

هناك في «كاف الحمام بجبل سمامة من منطقة سبيطلة يطلق مصطفى الذيبي نايه البدوي الحزين فيأتي إلى الآذان المصغية مخلوطا بعزف الريح على المرتفعات الجبلية السحيقة، وتعود بنا موسيقاه الحزينة إلى أغاني الرعاة وإلى قصيد أبو القاسم الشابي عن الرعاة، وإلى بداية «عيد الرعاة»، أول مهرجان في تونس يحتفي بهذه الفئة البشرية التي تعيش في عالم العزلة والطبيعة.

يصدع صوت صليحة الهلالي امرأة بدوية من هناك فتقول: «نا (أنا) حسبتك خويا (أخي)، خليت الحوش مسيب. وعلاش مسيب..»، يجيبها شقيقها الكامل الهلالي «جيت (جئت) واقف، طحت (سقطت) على يديا، نا طحت على إيديا، لحقني الدمار، يا أخيتي وعيني حية».

تغيب الكلمات بين الفيافي الواسعة وترتد إلى آذان الرعاة فيعيدون صياغة المعاني الإنسانية العميقة.