صالح بن فطيس القرني.. نصف قرن مع النحل والعسل في جبال عسير

مهنة وهواية علمتاه الصبر والقناعة

صالح بن فطيس القرني مع العسل في دكانه الصغير بسبت العلاية («الشرق الأوسط»)
TT

لو ُكتب لك أن تكون ضيفا عند أحد المواطنين في عسير بجنوب المملكة العربية السعودية فكن على يقين بأن العسل سيكون سيد المائدة في أي وجبة. ولأن تقديم وجبة العسل عُرف عند أهالي عسير فقد تميزت المنطقة ليس فقط بإنتاجه بل وبتصديره لكل أنحاء البلاد وخارجها.

في مدينة سبت العلاية بعسير يجد الزائر كل ما يريده من أنواع العسل. وعلى طرف المدينة يقبع دكان صغير يملكه ويديره نحّال عمل مع النحل والعسل لأكثر من نصف قرن، اسمه صالح بن فطيس القرني، الذي يعد من أشهر النحالين في جنوب السعودية. وبين حلاوة طعم العسل وحرقة لسع النحل امتهن صالح بن فطيس القرني إنتاج العسل منذ عام 1951.

بابتسامة رضا وتفاؤل استقبلنا في مستهل لقائنا معه، ومن ثم شرح قائلا «يعتبر العسل من منتجات مناطق السراة كعسير والباحة، وله حضور بأودية السراة، خاصة في محافظة بيشة ووادي الفاو ومشحذ. ويقدم العسل كضيافة مع أكلة تسمى (المعصوبة) أو وجبة (العيش)، وهو يقدم بشكل خاص في مناسبات الزواج». وتابع «تتراوح قيمة الكيلوغرام من العسل بين 200 ريال سعودي و500 ريال سعودي حسب نوع العسل، وتزداد قيمته في مواسم الجفاف».

وردا على سؤال حول أنواع العسل أجاب صالح القرني «هناك أنواع متعددة، منها غالي الثمن ومنها الرخيص.. ومنها ما يستخدم فقط لبقاء النحل على قيد الحياة. ويعد (المجرة) أفضل أنواع العسل وأغلاها، واشتهرت به منطقتا محايل عسير ورجال ألمع، وسبب ارتفاع ثمنه يعود إلى قلته. ثم هناك نوع آخر يسمى (السدر) ولونه أسود، ويتوافر في أودية تهامة وأودية الحجاز، وكذلك (الطلحة) الذي يستخدم للعلاج ويتوافر فقط في مناطق السراة بأعالي الجبال. وبين الأنواع الأخرى هناك (الضهيان) و(السحاية) و(العرفج).. وصولا إلى (الخبت) وهو أقل أنواع العسل قيمة وأدناها جودة، وسمي بذلك لأن النحالين يقومون بوضع قفرانه (جمع قفير، أي الخلية التي يعيش فيها النحل) في (الخبت) وهي المناطق الخالية من السكان، ويستخدم هذا النوع من العسل لإبقاء النحل على قيد الحياة لأطول مدة ممكنة».

ويمتاز أهالي السراة، عموما، بخبرتهم في معرفة أمور العسل وأنواعه لتوافره في مناطقهم وتداوله بينهم حتى أصبح وجبة أساسية لكثير من البيوت. وجزء مهم من خبرتهم قدرتهم على كشف المغشوش منه، إذ إنهم يميزونه بطرق عدة من خلال الشم بالتعرف على النبتة التي يتغذى عليها النحل، أو من خلال مستوى لزوجة أو سيولة العسل أثناء صبه على طبق أو في زجاجة. وهناك طريقة أخرى لا يعرفها كثيرون من الناس عن العسل المغشوش، يشير إليها صالح بن فطيس القرني «يكشف الغش من خلال حرق جزء من العسل. فالعسل الأصلي يحترق من دون تصاعد أدخنة، بينما المغشوش يحترق بأدخنة.. وهو ما يدل على وجود المزيد من السكريات في تركيبته».

ثم يوضح صالح القرني بلهجة الخبير «النحل يحتاج إلى تعامل خاص، والنحال دوما معرّض للسع النحل، وبالتالي عليه تفادي ذلك عبر وضع قناع خاص على الوجه واليدين». ويتابع «نتعلم الصبر يوميا من النحل، ذلك أن تربيته تستهلك وقتا كبيرا.. كذلك يعلمنا القناعة لأننا لا نجني المال الوفير من ذلك النحل في كل سنة، لكن العناية بالنحل وجني العسل هواية اشتهر بها الإنسان منذ القدم. والنحال لا يترك نحله مهما بلغ به الأمر، وهنالك قصص كثيرة حول من خسروا مناحلهم لكنهم عادوا من جديد لتأسيس مناحل أخرى. إنها بالفعل هواية فريدة من نوعها».

من جهة ثانية، يتميز موسم جني العسل بتنقل النحالين بين منطقتي تهامة والسراة، ففي فصل الشتاء يضع النحالون قفران النحل في منطقة تهامة المنخفضة نظرا لجفاف الطقس واعتداله، وفي فصل الصيف ينتقل النحالون بنحلهم إلى منطقة السراة بأعالي الجبال لاعتدال الطقس فيها. وهنا يقول صالح القرني إن ذلك أكسب المنطقتين تبادلا للمصالح من خلال بيع العسل في فصلي الصيف والشتاء. ويضيف أن التنقل «أكسب النحّالين خبرات من خلال التعرف على نحالي المناطق الأخرى، وأكسبهم أيضا المزيد من الزبائن». ويشرح أن النحالين يجب عليهم تنظيف الخلايا - أو القفران - وإزالة الشوائب الموجودة فيها، كما يتوجب عليهم حمايتها من بعض أعدائها كالطيور التي تتغذى على النحل والعسل. ثم يلفت إلى بعض مسببات موت النحل، ومنها رش بعض المبيدات الحشرية في المزارع، موضحا «لكن هناك تنسيقا بين النحالين والجهات الحكومية للحد من ذلك»، وشارحا أن «مهرجانا للعسل» يقام في محافظة سبت العلاية لمدة أسبوع سنويا نظرا لوجود المصطافين بالسراة أثناء فصل الصيف ونتاج العسل بشكل رسمي في ذلك الفصل. ومن المتعارف عليه بين الناس في عسير افتتاح «مهرجان العسل» في فصل الصيف، بحضور مجموعة كبيرة من النحالين من مختلف مناطق السعودية، وهو يشهد تنافسا على عرض العسل الأجود.

وحاليا، يبلغ حجم مبيعات العسل في السعودية حسب إحصاءات غير رسمية نحو 500 مليون ريال سنويا، بواقع 5 ملايين خلية (قفير) منتجة موزعة على أنحاء البلاد. ولكن تبعا لمصادر مطلعة تأثر حجم المبيعات كثيرا بفعل عمليات الغش.

في المقابل، أسس في المملكة أخيرا كرسي المهندس عبد الله بن أحمد بقشان لأبحاث العسل، الذي يهدف لبناء بنية أساسية وقاعدة معرفية ترتكز عليها جميع الأنشطة والفعاليات والمشاريع التطويرية لقطاع النحل وذلك لتحقيق التميز والريادة إقليميا ودوليا، بما فيها تعزيز البحث العلمي وتوظيفه للنهوض بمهنة النحالة في المملكة، ومن ثم تنمية قدرات الباحثين وطلاب الدراسات العليا والنحالين للاستغلال الأمثل لنحل العسل وزيادة مساهمته في الاقتصاد الوطني وتحقيق تنمية مستدامة لهذا القطاع. وضمن دور هذا الكرسي أيضا العمل على حل المشاكل والمعوقات التي تواجه النحالين، إلى جانب رفع مستوى مداركهم العلمية وتنمية قدراتهم المهنية. كذلك من اهتمامات الكرسي التعاون الكامل مع الجهات ذات العلاقة داخل المملكة، وكذلك مع مؤسسة ابن خلدون للتعاون الإنمائي في اليمن، لتنفيذ الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها في مجال تربية النحل.