مواسم جني «الصابة».. فرحة العائلات في الأرياف التونسية

مناسبات سنوية تثبت علاقة الفلاح بأرضه

الأرض التونسية المعطاءة.. في كل جهة غلال ومحاصيل متميزة («الشرق الأوسط»)
TT

يعم الفرح العائلات في أعالي الشمال الغربي وفي السهول والسباسب الممتدة بوسط تونس. وتنشط السواعد على أكثر من واجهة من أجل جمع «الصابة» - أو موسم «الغلة» - وجني محاصيل السنة من مختلف المنتجات الفلاحية، إذ تسعى العائلات إلى جمع «العولة» - أي «مؤونة السنة» - من مواد غذائية تعرف الكثرة في فترات القر، ويتكاثر إنتاجها في أيام الحر. أما قائمة المنتجات فهي متعددة وتشمل الخضار بأنواعه، والغلال بأشكالها وألوانها الكثيرة، إلى جانب جني محاصيل الحبوب المتنوعة من القمح والشعير والبقول الجافة المختلفة.

وتمتد الأيادي التي عرفت هدنة بسيطة خلال الأيام الأخيرة من فصل الشتاء، إلى المخازن تنظفها وتعدها لاستقبال «الصابة» الجديدة. وتسعى النساء هناك في المناطق الريفية البعيدة إلى ضمان أكبر نصيب من المخزونات خلال الأشهر الصيفية من طماطم يصار إلى تشريحها وبسطها فوق الأسطح العالية، بعد أن يذر فوقها القليل من الملح، ومعجون المشمش ومخللات الفلفل، والزيوت العطرية المختلفة (ماء الورد وماء النسري والعطرشية). وهي تدخل بطريقة غير مباشرة في باب جني «الصابة» خلال الأيام الأخيرة من فصل الربيع وبداية الصائفة، وتتواصل طوال الأشهر الحارة.

حول مواسم جني المحاصيل، كشف أحمد البوجبلي، وهو فلاح من الشمال الغربي التونسي، في حديثه مع «الشرق الأوسط» عن «اختلاف واسع بين مواسم جني المحاصيل في العقود الماضية، ومواسم الصابة في الوقت الحالي»، فأشار إلى «طابع التضامن بين الفلاحين في غياب الآلة.. وتعويل التونسيين على السواعد في جمع مختلف أنواع الصابة. فترى جماعة تقيم المآدب بعضها لبعض، فلا تكاد تمر سوى أيام قلائل حتى يكتمل جمع كل المحاصيل».

وتابع البوجبلي: «كانت تلك المبادرات والممارسات الجماعية تنمي روح الجماعة وتقرب الناس بعضهم من بعض، أما الآن، فإن أنواع الآلات المتدخلة في القطاعات المختلفة قضت على الكثير من العلاقات الحميمة بين الناس.. وإن كان عمل الآلات لا يخلو من نظافة وسرعة تختصر الوقت.. مع توفير كبير في اليد العاملة».

البوجبلي قال خلال حديثه إن أواخر فصل الربيع وأشهر الصيف «فترة غنية بالمحاصيل الزراعية، تفتح الأبواب على مصراعيها أمام العائلات الريفية للعيش في ظروف أفضل. ومن خلال تلك المحاصيل تأتي أفراح مختلف العائلات، فأهل الريف لا يدبون فوق أرض الله - على حد تعبيره - إلا في فصل الصيف عندما تتوافر كل خيرات الأرض. إن العائلات تنتظر الصابة وتؤجل الكثير من مشاريعها إلى أجل مسمى، غالبا ما يكون فصل الصيف. كما أن نسبة عالية من الفلاحين يقترضون الأموال على حساب الصابة وتبنى مختلف العلاقات على أساس ما تجود به الأرض».

وتختلف الصابة والمحاصيل من منطقة إلى أخرى، غير أنها تبقى عنوان انفراج العلاقات وفرح العائلات، وهو - كما سبقت الإشارة - ما يجمع معظم العائلات المرتبطة مصائرها بالأرض. ففي مناطق الوطن القبلي (ولاية/ محافظة نابل، الواقعة على بعد 60 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس) يجمع الفلاحون صابة «الفراولة» («الفراولو» في تونس، والفريز ببلاد الشام) ويخافون من إصابة المحصول ببعض الأمراض ويخشون على الصابة من حلول الحشرات التي تعجبها حلاوة مذاق «الفراولة». كما تجمع عائلات أخرى صابة الخضار والغلال من البطاطا (البطاطس) والطماطم إلى الفلفل ومختلف الخضار، وفي ذلك الكثير من العائدات والخيرات.

أما في مناطق الشمال والشمال الغربي (باجة وجندوبة وسليانة وبنزرت وزغوان، بالأساس) فإن المحاصيل مرتبطة بالمساحات الشاسعة المستغلة لزراعة الحبوب. وللقمح والشعير، خصوصا، علاقة تاريخية كبيرة بهذه المناطق المعروفة بالمساهمة الكبيرة في تأمين سلة الغذاء للتونسيين. ويكفي أن المناطق المحيطة بمدينة باجة وحدها كانت تسمى «مطمور روما» في عهود مضت، وما زالت حتى الآن تنتج معظم مخزون تونس من هذه المواد الغذائية الاستراتيجية.

وفي حين تنتج مناطق القيروان وسيدي بوزيد صابات اللوز، فإننا نجد في المناطق القريبة من قفصة (الجنوب الغربي) معظم محاصيل الفستق. ويعرف الساحل التونسي جني محاصيل غابات الزيتون، والمناطق الصحراوية تنتظر معظم أشهر السنة لجني صابة التمور. وأخيرا، في قابس، الساحلية الجنوبية الواقعة على أبواب الصحراء، فإن السكان ينتجون معظم صابة الرمان.. الثمرة المختفية حباتها بين الثنايا البيضاء.

عن هذه المواسم الفلاحية، قال عبد المجيد بن حسن، وهو مهندس فلاحي (زراعي)، إن «الخارطة الفلاحية في تونس متنوعة، وكل منطقة من مناطق البلاد تشتهر بأنواع من الخضار والغلال التي تجعلها قبلة التونسيين خلال موسم جني الصابة. وثمة من يأتي خصيصا إلى تلك الجهات للتمتع بغلال.. الكثير منها يجمع على طبيعته، وأغلبه منتج بطريقة بيولوجية». وأضاف في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، شارحا: «إن مواسم جني الصابة مواسم فرح لكل العائلات القاطنة في مناطق الإنتاج، والفرحة تطال حتى من لا أرض له... فالفلاحون يغدقون من خيرات أراضيهم على الفقراء من بينهم». ومن ثم، مهما اختلفت مواسم جني المحاصيل، فإن ما يجمع بينها هي فرحة الناس بما تنتجه الأرض؛ لأن المحاصيل تبعث الأمل في النفوس وتجعل الفلاح أكثر التصاقا بأرضه.