شارع علال بن عبد الله في وسط الرباط.. هجره الصحافيون والهنود

الأمكنة بقيت كما هي لكن الزمان دار دورته

TT

البنايات هي البنايات في شارع علال بن عبد الله بالعاصمة المغربية الرباط. لكن أشياء كثيرة تغيرت في هذا الشارع الذي يتوسط المدينة.

في الماضي كان هو «شارع الصحافة.. والهنود». أما الآن فقد هجره الصحافيون والهنود، ووحده إبراهيم فرحان، نادل «مقهى مبروكة»... بقي في مكانه يتذكّر.

عندما يأتي إلى الشارع أحد الوجوه القديمة، يصرّ إبراهيم على دعوته ليتناول «مشروبا». ذلك أن إبراهيم يعرف جيدا وجوها كانت في هذا الشارع بعضها لصحافيين وأخرى لكتّاب، جميعهم كانوا من نجوم السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. بل أكثر من ذلك، يتذكّر إبراهيم ما كانوا يحتسون في هذا المقهى الصغير النظيف الذي يندلق منه الناس عادة نحو «الرباط العتيقة». فهو يعرف، مثلا، أن فلانا كان يحتسي «قهوة سوداء» والآخر «إسبريسو» والثالث «قهوة ممزوجة بالحليب» هي تلك التي يطلق عليها المغاربة مسمى «قهوة مهرسة»، والرابع «شاي أسود»، وخامس «شاي أخضر منعنع».

لعل من مفارقات زمان الناس هذا، أن الصحافيين والهنود هجروا «شارع الصحافة» في وقت واحد. فالهنود كانت لهم متاجر يبيعون فيها الملابس والأجهزة الكهربائية، ثم تحوّلوا إلى الأجهزة الإلكترونية عندما أصبح العالم «رقميا» (ديجيتال). وكانت تملأ خياشم مَن يمرّون بمحاذاة متاجرهم عبق البخور المستورد من أعماق الهند.

لم تكن ثمة علاقة مباشرة بين الصحافيين والهنود، إذ لم يكن الصحافيون من زبناء متاجر الهنود، لأن رواتبهم في ذلك الزمن كانت بالكاد تكفي ليقتات أصحاب «مهنة المتعة» خبزا.

لكن لماذا ترك الصحافيون والهنود الشارع في وقت واحد؟

المؤكد أن الهنود تركوا الشارع بعدما كسدت تجارتهم، إذ ما عاد وسط الرباط نقطة الرّواج والقلب التجاري النابض للعاصمة المغربية كما كان الشأن من قبل. ولكن إلى أين ذهبوا؟

تفيد «معلومات» إبراهيم فرحان بأنهم رحلوا إلى طنجة، بشمال المغرب، وليس عنده تفسير لذلك. هو سمع من أحد الهنود الذي كان متجره مجاورا للمقهى حيث يعمل، أن معظمهم انتقل إلى طنجة.

وتقول رواية يُعتدّ بها أن معظم الهنود عندما كسدت تجارتهم في جبل طارق، عبروا مضيق جبل طارق إلى طنجة، غير أنهم سرعان ما اكتشفوا أن طنجة قد تصلح للكتاب والروائيين والشعراء والمتسكعين وصعاليك الليالي والباحثين عن عوالم غريبة، لكن ليس للتجارة. وبناء عليه انتقلوا من هناك إلى الرباط والدار البيضاء. لكنهم الآن عادوا في رحلة عكسية.. وربما عادوا إلى «جبل طارق».

هناك مثل متداول يقول «عندما تختفي القرود من جبل طارق، سيغادر البريطانيون الصخرة». كان الهنود قد عدّلوا ذلك القول الشائع ليصبح «عندما يترك الهنود وتحتفي القرود من جبل طارق، سيغادر البريطانيون الصخرة». ولكن الثابت الآن، هو التالي: لا البريطانيون ولا الهنود ولا القرود غادروا جبل طارق. والمرجح أن كثيرين منهم غادروا المغرب. والمؤكد الآن أنهم غادروا شارع علال بن عبد الله.

وماذا عن الصحف إذن؟ أين ذهبت الصحف وأين اختفى الصحافيون؟

في السبعينيات والثمانينيات كانت مكاتب صحف مثل «العلم» و«لوبنيون» و«الميثاق الوطني» و«المغرب» و«أنوال» و«لوماتان» و«المسيرة الخضراء»، يُضاف إليها مكاتب وكالة الأنباء الفرنسية و«تاس» السوفياتية و«إيفي» الإسبانية.. موجودة كلها في شارع علال بن عبد الله. ولاحقا، بعض هذه الصحف اندثر.. وبعضها رحل إلى مناطق أخرى.

معظم بنايات الشارع، وبعضها مبانٍ كولونيالية، أي تعود إلى فترة الوجود الفرنسي في المغرب، زحفت عليها شركات الاتصالات، في سوق تنمو باطّراد إلى حد فاق عدد الهواتف الجوّالة عدد السكان. حيث تشير آخر الإحصاءات الرسمية، إلى أن المغاربة يستعملون 40 مليون هاتف جوّال.. جميعها يرنّ ويرنّ.

عدة شركات اتصالات فتحت لها فروعا في شارع علال بن عبد الله، لكن بعض الأمكنة ما تزال على حالها.

ثمة فرع لشركة عالمية تبيع الزهور، ما زال في مكانه. «وهنا يمكنك أن تشتري زهورا وترسلها من الرباط إلى جميع الاتجاهات.. حتى استراليا»، كما يقول الشاب الذي يعمل في المتجر. وعلى مقربة من هذا المتجر متجر آخر، تعمل فيها سيدة فرنسية، كانت صاعقة الجمال في زمانها، يعرفها كل من يعرف الشارع، ما تزال هنا تجلس خلف ماكينة النقود، لكن من الواضح أن الزمان دار دورته. إذ ذبل حسنها، وما عادت ثيابها أنيقة كما كانت. ووجهها خال من آثار التجميل وروائح العطر. إنها دورة الزمان.

هناك فندقان صغيران في الشارع جدّدا، أحدهما «فندق رويال» كان يقيم فيه الكاتب محمد شكري عندما يأتي من طنجة إلى الرباط. وقرب الفندق كانت هناك سيدة أفريقية ومعها طفلان تتسوّل «المارة»، وبجوارها وضع شاب أفريقي بعض التماثيل من خشب الأبنوس على أمل أن يبيعها لهم. أما المقاهي فما زالت كما كانت عليه، تعج بأولئك الزبناء الذين يراقبون المارة.

كثيرون يعبرون شارع علال بن عبد الله نحو «السويقة»، أي الرباط القديمة، للتسوّق، وفي اعتقادهم أنها المكان الأرخص. المشي داخل أزقة ودروب المدينة العتيقة يصبح أمرا شاقا بسبب الزحام وضيق المكان، لكن الناس تزحف إلى هناك غير عابئة.

الأمكنة تتحول إلى متاهة، لكن من يكترث؟ الأرصفة مبللة، وسلع الدكاكين المتراصة تتدفق نحو الأرصفة.

«الحوانيت» التي كانت تعج بمأكولات في بعض الأيام تتحول إلى «حوانيت» تطفح بالحلويات أو المصنوعات الجلدية والأجهزة الإلكترونية.

العكس يجوز أيضا «السويقة» هي كذلك الصياح والزعيق. الناس عندما تضجر من «السويقة» تنتقل إلى شارع علال بن عبد الله، ولكن هنا لا يشترون بل يتفرجون.

«شارع الصحافة» في الرباط أصبح الآن شارع ذكريات.. واتصالات. بيد أن إبراهيم هناك في «مبروكة» يتذكر كثيرين.