كفيف لبناني يتقن صناعة المفاتيح أكثر من المبصرين

محطما قيود عتمته الدائمة ومحولا إياها إلى طاقة وإبداع

نصر الله وهو يسحب جزءا مكسورا من مفتاح من داخل قفل سيارة («الشرق الأوسط»)
TT

يشكل نموذجا لرافضي العيش على هامش المجتمع، وبرهانا حيا على أن الإعاقة لا تقف أحيانا في وجه الإبداع، فبفضل تسلحه بالإرادة والصبر والإيمان بالله نجح في تحقيق طموحه وتغيير نظرة المجتمع إليه ككفيف، محولا إعاقته إلى طاقة كانت كفيلة بذيوع صيته في الكثير من المناطق اللبنانية.

«تركت مهنة تصليح الأسلحة بما فيها الحربية وأسلحة الصيد منذ 12 عاما منشدا راحة البال، ورحت أبحث عن مهنة لا أحتاج فيها إلى معاونة أحد، فاخترت مهنة صناعة وتصليح المفاتيح، فكرة شجعتني عليها زوجتي، خاصة بعد رفض الكثير من العاملين فيها تعليمي مبادئها وأسرارها متذرعين بعبارة: من يملك النظر بالكاد يستطيع العمل فيها فكيف بأمثالك؟»، هكذا قال الكفيف خضر نصر الله لـ«الشرق الأوسط».

داخل محل نصر الله الواقع في بلدة قانا (جنوب لبنان)، لا يجد الزبون فارقا بين أداء المعلم «خضر» وأداء غيره من أصحاب المهنة، فذاكرته الحادة تمكنه من إيجاد المفتاح المطلوب لصناعة نسخة منه للزبون بسرعة.

الفرنسية كما الإنجليزية يتقنها نصر الله لفظا وكتابة بعد استعانته بنظام «برايل» الخاص بالمكفوفين الذي كان قد تعلم عليه في المدرسة اللبنانية للضرير والأصم في بعبدا (غرب بيروت) وهو في العشرين من عمره.

واستنادا إلى هذا النظام، يقوم نصر الله بطباعة اسم الزبون ورقم هاتفه، ونوع المفتاح وقيمة التكلفة، على المئات من الشرائح المعدنية ذات القياسات المختلفة، تسهيلا لخدمة زبائنه في الموعد المحدد.

فقدان نعمة البصر لدى صاحب الـ45 عاما يعود إلى تعرضه لحادث سيارة في العاصمة وهو في التاسعة من العمر، وفي ذلك يستذكر: «لم يستطع صاحبها السيطرة عليها فاصطدمت بي، تمنيت آنذاك أن أقبر وتنتهي حياتي، ظلمة أدخلتني في نفق لم أخرج منه حتى الآن».

شهرة نصر الله وصلت إلى الكثير من المناطق ومنها بيروت وصيدا وعشرات البلدات الجنوبية، إذ إنها لا تنحصر في إطار صناعة المفاتيح، بل تنسحب على سحب الجزء المكسور منها من داخل الغالات العائدة لنقطة إدارة المحرك، إضافة إلى براعته في فتح أبواب المنازل وخزنات الشركات.

فذات يوم تعرضت إحدى الشركات الخاصة في البلدة لمشكلة، بعد أن نسي المسؤول المالي فيها الرمز السري الخاص بالخزنة العائدة للشركة، وبعد فشل الكثير من المحاولات التي قام بها خبراء في فتح الخزنات في المنطقة، كان الخلاص على يد نصر الله أمام عيني مدير الشركة، الذي لم يصدق ما تراه عيناه حتى رؤيته الخزنة مفتوحة.

ولا تخلو يوميات نصر الله من المغامرات حينا والمخاطر أحيانا أخرى، وفي ذلك يروي: «في أحد الأيام قصدني رجل بهدف فتح باب إحدى الشقق في البلدة، وعند محاولتي فتحه، انتابني شك من خلال صوته بأن يكون لصا، فتظاهرت بالعطش وعند ذهابه لشراء زجاجة ماء، علمت من الجيران بأن أصحاب الشقة مغتربون وهم في كندا، فما كان مني إلا أن أبلغت الشرطة بالأمر وبرقم هاتفه، ولدى عودته تذرعت بالحاجة إلى آلة موجودة في المحل، وما كدنا نصل إليه حتى ألقت الشرطة القبض عليه».

أما المخاطر، فتعود إلى الحذر الذي يشدد عليه نصر الله في حال رغب أي زائر في التنقل داخل أرجاء محله بسبب بعض أدوات العمل الحادة (الطويلة والقصيرة الحجم)، التي صنعها بنفسه، أو تجنبا لسقوط بعضها من فوق الرفوف على رأس الزائر، فضلا عما يشكله الكثير من الأسلاك الكهربائية من مخاطر، والتي حفظ نصر الله دور كل واحد منها كما غيرها عن ظهر قلب.

نصر الله الذي بدأ مسيرته المهنية بـ500 مفتاح بات اليوم يملك أكثر من 400000 مفتاح، بعد أن قارب العدد الـ200000 في عام 2007.

واللافت أن نصر الله قادر على صناعة مفاتيح جميع أنواع السيارات بما فيها الحديثة، وحتى تلك التي من طراز عام 2011 بفضل ما يقارب العشرين جهازا قام باستيرادها من الخارج، لا سيما من إيطاليا وألمانيا واليابان وفرنسا وغيرها. وردا على سؤال يجيب: «سلاحي هو الصبر والإيمان بالله في مواجهة سخرية كل زبون جديد، اكتسبت خبرتي من خلال اللمس والسمع حتى بت أميز المفتاح الأصلي من خلال اللمس أو من خلال رنينه عند سقوطه على الأرض».

وعن أسباب النجاح، توضح زوجته فضيلة أنه لطالما كان مؤمنا بأن الاعتماد على النفس أساس النجاح، فراح يعلم نفسه بنفسه تدريجيا، واليوم ألاحظه يخصص لكل قطعة أو آلة مكانا معينا، تسهيلا لوصوله إليها عند الحاجة.

مواهب نصر الله لا حدود لها وفي ذلك يشير نبيه بلحص (أحد زبائنه الدائمين): «فاجأني بمقدراته ككفيف عندما تعرفت عليه، ثقته بنفسه جعلتني أراهن على مقدرته في نزع خاتم تسبب في ورم في إصبع أخي محمد، وهو عانى الأمرين عند الأطباء دون جدوى، لكن الذهول أصاب الحاضرين عند رؤيته يعتمد على آلة كهربائية لتلحيم الحديد في نزع الخاتم قائلا لأخي: (لا تخف.. المسألة بسيطة)، وما هي إلا دقائق حتى عمت السعادة وجوه الجميع».

وفي اليوم الثاني، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما الـ«فيس بوك» الحادثة مرفقة بالصور، مما جعل ابنته الصغرى تبدي افتخارها بوالدها أمام أصدقائها في المدرسة.

أما مجاراة التكنولوجيا، فقد بدأها - من يمارس رياضات المشي والركض والسباحة برفقة ابنه - منذ نحو السنة، واليوم بات بمقدوره الطباعة على جهاز كومبيوتر ناطق عبر برنامجي الميكروسوفت.

والجدير بالذكر أن نصر الله يهوى لعبة الشطرنج وهو يميز البيادق السود من خلال المسمار الرفيع الموجود على رأسهم أو من خلال طولهم.